"أصوات عربية" في النرويج - حنان باكير
من نِعَم الدنيا عليّ، أني لم أعرف الغيرة، بكل أشكالها وألوانها، طيلة حياتي. فالغيرة نار تأكل قلب صاحبها. لكن تلك النار وصلتني منذ أن انتقلت للعيش في الغرب، وخاصة في النرويج.. حيث رأيت وساهمت ايضا، في الاحتفال والاحتفاء بشعرائهم وكتابهم ومفكريهم. وشاهدت كيف تتحوّل بيوتهم الكبيرة الى مزارات ثقافية، وأماكن لإقامة الأنشطة الأدبية والفكرية، المنفتحة على جميع ثقافات العالم، فيعلّمون ويتعلّمون منها.
بيوتات هؤلاء الشعراء والكتاب، كبيرة مع حدائق مترامية الأطراف، واصطبلات للخيول، ما يدل على رفاهة عيشهم، وإن كان بعضهم كابد الجوع والفقر في بداية حياته. تقوم البلديات بشراء تلك البيوت، وتحوّلها الى مراكز للإشعاع والثقافة. مع إقامة نصب ولو متواضع للشاعر او الكاتب.
في بلادنا، يموت المبدع جوعا وقهرا. يموت وهو لا يملك كوخا! ويمضي الى العدم كما جاء، ويصبح نسيا منسيا بعد حين. فقط بعض المحظوظين، يشذّون عن هذه القاعدة.
هنا، تدافع الدولة عن مفكريها. والأمن يحرسهم ويسهر على حمايتهم، كما حدث مع الكاتب يوستاين غوردر. في بلادنا تضيق الأوطان على الكتّاب، حتى تصبح أضيق من زنزانة! ويصبح على الكاتب أن يختار، بين" الزنزانة أو القبر" ! أو الرحيلَ اذا ما استطاع اليه سبيلا! أو أن يضع نفسه في أسر العبودية بتأجير أو بيع قلمه! وحيث لا إبداع دون حرية!
يجتاحني الغضب والغيرة، كلما ازدادت مشاهداتي ومشاركاتي، في الأجواء الثقافية النرويجية. ما نكأ الجرح هذا الأسبوع هو النشاط الثقافي الذي أقيم في مدينة" دْرمّن"، وفي مركز الشاعر النرويجي هارمن وايلدنْفي.
دُعي المفكر النرويجي من أصل عراقي، وليد الكبيسي لإلقاء محاضرة حول شعر هارمن، الذي صادف شهر تموز، ذكرى مولده. لكنه لم يكن أنانيا.. ولم يُرد شيئا لنفسه فقط، وهو المسكون بحب الأدب والثقافات والانفتاح بين الحضارات.. فاقترح على المسؤولين، مشروع نشاط أدبي عربي، وتحويل المناسبة الى ملتقى ثقافي، يقدم فيه الوجه الحضاري للإنسان العربي، هادفا بذلك الى كسر الصورة النمطية له. فحمل على عاتقه مسؤولية تنظيم النشاط من ألفه الى يائه. حيث قام باختيار وترجمة قصائد لشعراء، من فلسطين والعراق وسوريا، تحت عنوان "أصوات عربية".
قراءة الشعر العربي ترافقت مع عزف على الفيولين للفنان العراقي حكمت الناهي، الذي أضفى على الأجواء رومانسية تتناغم وطبيعة الغابة حيث المركز/ البيت. أبدع الشاعر العراقي، عادل شرقي، بقراءته وإلقائه. الشاعر الغزاوي نصر شعث، أبى أن يحشر نفسه فقط في الهمّ الفلسطيني، فقرأ ايضا أشياء جميلة، عن ذكريات الطفولة، معظمنا خبرها. من سوريا تألقت الشاعرة افتخار اسماعيل، برقة شعرها، وجمال ريشتها، عبر لوحات جميلة. العلم الفلسطيني زيّن الغابة وقاعات المركز. ما قرأتُه عن عكا، استدرّ دموع الحضور.. ثمّن النرويجيون كثيرا مشاركة السفير الفلسطيني، وحضوره البرنامج الثقافي بكامله. حيث تحدث عن الادب الفلسطيني وكيف ساهم في تشكيل الهوية الفلسطينية.
الكاتب وليد الكبيسي، كان مبدعا في طريقة تقديمه للمشاركين وبطريقة غير تقليدية. هذا مثال على أن الحرية تحفز الإبداع. وهذه الأجواء ألا تستحث فينا الغيرة ونارها؟!