لا بدّ مما ليس منه بدّ - محمد علي طه
لا بدّ من أن يأتي. خبّرني دم طفلٍ اغتاله المغول على شاطئ غزّة، ونبّأني العندليب على شجيرة الليمون في حديقة بيتي قبيل الشّروق. أنا ضعيف أمام بكاء الأطفال فكيف أكون أمام دمائهم الطّاهرة؟! كلمة ضعيف غير دقيقة وغير معبّرة في وصف حالتي. لا بدّ من أن يأتي. وأنا أثق بالطّيور وبخاصّة المغرّدة، ولا أثق بالجنرالات ذوي النّياشين، ولا أثق بذوي العمائم والمسابح وبتلاميذ يهوذا، ولا أثق بالتّجار وبالسّماسرة.
هذه الحرب أوجعتني وسرقت من عينيّ النّوم. شاهدتُ وشاهد العالم معي هؤلاء الذين تغنّوا بالحضارة وبجوائز نوبل، واختالوا بالثّقافة، تحولوا الى ذئاب صحراويّة. قدّمت الحربُ لي الاعلاميّ الاسرائيليّ والمثقّف الذي خلع انسانيّته كما يخلع ملابسه الدّاخليّة وتسربل بالحقد والكراهيّة. هذه الحرب أسقطت القناع عن العنصريّين والسّفلة وعن الدّجّالين الذين يميّزون بين دم طفل أشقر وبين دم طفل أسمر. سقط القناع عن هؤلاء الذين رقصوا على خراب خزاعة والشّجاعيّة وعن الذين تفاخروا باغتيال مدرسة وباعدام مستشفى وبمحو مسجد وبتدمير كنيسة. سقط القناع عن الذين ينكرون وجودي وعن أحفاد يوشع الذين بحثوا عن النّصر في تدمير أبراج سكنيّة.
حقّق مارس، سيد الحرب، مكسباً أكيداً مؤكّداً فمئات آلاف الأطفال الذين شاهدوا جثث آبائهم وجثث أمهاتهم وجثث اخوانهم وأخواتهم ممزّقةً محروقةً في رفح وخان يونس وبيت حانون والشّجاعيّة وخزاعة ومخيّم الشّاطئ، هؤلاء الأطفال مشاريع مؤكّدة لأسطورة الصّدى والهامة. فيا لغباء هؤلاء السّاسة المتحجّرين!
على الرّغم من أهوال الجّرائم ومن الضّحايا ومن الدّماء ومن الخراب ومن نيران الطّيران وجحيم القنابل والصّواريخ أتوسّل اليكم يا بنات شعبي ويا أبناء شعبي أن تحموا انسانيّتكم وأن تحافظوا عليها. لا تصفحوا عن دليل أبرهة وايّاكم أن تتبرعوا وتقدّموا صورة داعشيّة تحوّل عيون كاميرات العالم عن الأطفال القتلى وعن الأحياء المدمّرة. أرجوكم ألا ترقصوا بعد أن وضعت الحرب أوزارها احتراماً لدم طفلٍ كان يُطعم الحمام على سطح بيته فاغتاله قنّاصٌ مجرمٌ، واجلالاً لشهيدة حامل بقي جنينها حيّاً شاهدا على المذبحة، ودمعةً على سبعين عائلة كريمة أبيدت، واكراماً لشظايا فناجين القهوة العربيّة ما بين الأطلال !! قولوا بفخر: صمدنا صموداً بطوليّاً أمام آلة الحرب الجهنميّة وأفشلنا العدوان وأفشلنا محاولة اغتيال الحلم الفلسطينيّ.
كان هذا العدوان ردّاً على المصالحة الوطنيّة وجاء ليبتر غزّة عن القدس، ورفح عن رام الله، وليعيد القول «نجهل فوق جهل الجاهلين».
هذا الصّمود الرّائع يدعو أبناء هذا الشّعب البطل ليتصرّفوا بمسؤوليّة وطنيّة لا فصائليّة، ويقول بوضوح: لا عودة الى أيّام داحس والغبراء.
هذا ما تقوله دماء الشّهداء. وهذا ما تردّده شفاه الجراح. وهذا ما تفصح عنه أطلال البيوت التي تبكي ياسمينها ونعنعها.
لا بدّ من أن يأتي. كان سيّد الشّهداء يراه قريباً. ونحن اليوم نراه قريباً قريباً. ولا بدّ من أن نراه!