الحنين الى الحبر الأخضر - احمد دحبور
يخطر لي أحيانا، ان الحالة الفلسطينية الاستثنائية، قد اعادت انتاجنا حتى لنكاد نغدو مختلفين عن بقية البشر، وما زلت اذكر واحدة من سهرات العمر، مع الشاعر المصري الراحل الكبير امل دنقل، فقد كان يجلس في الطرف المقابل منه اثنان: هما الكاتب الفلسطيني رشاد ابو شاور وكاتب هذه السطور ولم نكد نستقر في الجلسة، حتى مال عليّ رشاد، او ملت عليه، ورحنا نتهامس، وعندها حبكت النكتة مع المرحوم امل فصاح بأعلى صوته: ألا يمكن ان يجتمع فلسطينيان من غير ان تكون لهما اسرار خاصة؟ وهو سؤال مفهوم مشروع يتعلق بالقلق الفلسطيني، سواء أكان وجوديا أم فكريا أم مزاجيا، والحرص على ازالة سوء الفهم المفترض بين الفلسطينيين انفسهم، والواقع ان هذا الوضع الاستثنائي حتى لا اقول الشاذ، ليس امتيازا لنا ولا علامة خصوصية، بل ان القلق المستدام الذي يرافقنا، يتحول الى اسئلة، والاسئلة الى نقاش، وقد يتطور النقاش الى خلافات صغيرة او كبيرة.
ولا يصعب على المراقب المحايد ان يجد سببا للمماحكات الفلسطينية، لان الواحد منا يأتي مسبوقا بسؤال او اسئلة، ويمكث في حضرة اسئلة مستجدة، ويمضي متبوعا بسؤال و آخر، ولا يمكن اعتبار هذه الشكوى - اذا كان من سبب للشكوى - بمثابة احتجاج على اوضاعنا الحالية، بل هو تقرير موضوعي عن وضعنا الذي أكاد اصفه بالاستثنائي، وقد تحضرني لهذه المناسبة نادرة تتعلق باثنين جائعين، وقد انهكمها حديثهما المستدام الدائر حول الجوع، فقررا ان يغيرا الحديث باللجوء الى التجريد، فسأل احدهما الآخر: كم يساوي واحد وواحد؟ فأجابه صديقه على الفور: رغيفين!! بمعنى ان الموضوع الذي يؤرق البشر سيظل يتمظهر بأشكال مختلفة حتى لو حاولوا تجاهل المشكلات التي تؤرقهم، وهكذا فلا تتوقعوا من فلسطيني كلاما لا يتعلق في آخر المطاف بالموضوع الفلسطيني!! اما حمولة هذا الموضوع، تركيزا او عمقا او محاور مختلفة، فهي تتراوح وتتغاير حسب طبيعة المتحاورين، وكما يقال في المثل الشعبي: عندما خلق الله اثنين، خلق لهما عقلين لا واحدا.
اخلص من هذا الى ان الاشكال الفلسطيني، قد سحب حضوره على الفلسطينيين جميعا بهذه النسبة او تلك ولا انتهاء له حتى بانتهاء الجدل التاريخي المحتدم حول قضيتنا الوطنية، واذا كان استاذنا، في المدرسة، يخط لنا علامات بحبره الاخضر، حتى يميز تقويمه لنا عما كتبناه، فإن هذا الحبر الاخضر، بما هو علامة رقابة وتقويم، سيظل يرافقنا ما حيينا..
وقد كنت اذهب الى هذا الظن عندما كنت اعيش في بلد عربي غير فلسطين، فكنت اعتقد بأن مزاجي السياسي ملتحم بهويتي الوطنية التي لا اريد مغادرتها، حتى اذا عدت الى الجزء المتاح لنا من الوطن، اكتشفت ان هذه النزعة للاختلاف - او للخصوصية على الاقل - لا تزال ترافقني من غزة الى رام الله الى ما شاء الله من حدود فلسطين.
ولكن لم لا؟ ألا نوجد على هذه الارض او سواها، فأفكار مختلفة وامزجة مختلفة ورغبات متغايرة؟ وهل الاختلاف علامة خلاف ام انه وضع انساني ملازم للكائن البشري منذ ان يدب على الارض حتى يثوي فيها؟
ويبقى ان الظرف الموضوعي الذي يشهد على حضورنا في هذا العالم، يحكمنا بأسئلة من طبيعة تجربتنا ومعاناتنا، وسيظل الفلسطينيان يتهامسان وهما في غمرة حضور عام، ذلك ان ما يؤرقنا ويرسلنا الى العالم، ليس مجرد مزاج نكد، بل هو قلق وجودي وتوق الى التحقق وصياغة المصير، بل ان من المفارقات الطريفة، ان احدنا اذا خطر له «ان يخرج على الخط» فيكتب موضوعنا مغرقا في الذاتية - سيجد قارئا رقيبا ينبهه الى قدره المحبب، وهو ان يكون باستمرار ابناً لهذا الشعب، واسئلته العامة من طبيعة اسئلة الشعب. ولا انكر ان هذا الوضع الفلسطيني المركب، قد يفضي في بعض الحالات المحدودة غير السوية، الى نوع من الافتعال، ولكن المأزوم محكوم بمعالجة ازمته، وقديما قلنا في امثالنا الشعبية: انا منك هارب وانت معلق بالشارب.. اي ان الهم سيلازمنا ملازمة الشارب لوجه الشاب، فنحن لم نختر هذه الطريق بل وجدنا انفسنا عليها، وليس ترفا اننا محكومون بمواصلة الطريق، ومن حسن الطالع اننا لم نقدم استقالتنا، بل نحن ذاهبون الى ما يجب الذهاب اليه والانخراط فيه.. فالامور هكذا: لا مزايدة ولا مناقصة، بل اعادة انتاج لمقولة شاعرنا المرحوم سميح القاسم: أبدا على هذي الطريق.. واننا، ان شاء الله، ماضون ابدا على هذي الطريق، والا فإن أبا عمار، رحمه الله، سيداعبنا من جديد قائلا ان على من يتعب ان يسلم الراية لأولاده، اما نحن - من ابتلينا بأرق الكتابة - فلن نتخلى عن حبرنا الاخضر والاحمر حتى يتبين الخيط الاسود من الخيط الابيض، و.. ابدا على هذي الطريق. ولنراهن على ان يبقى حبرنا الاخضر اخضر، فليس امرا سهلا ان تكون وتبقى فلسطينيا!!