المصادرة والمقامرة - عدلي صادق
رحم الله الضابط والمجاهد والباحث الأردني عبد الله التل، قائد الكتيبة السادسة في حرب 1948 الذي أجهز على التجمع الاستيطاني المسمى "غوش عتصيون" في معركة التحام ضارية. فقد حملت الصهيونية الغاشمة، بعدئذٍ، هاجساً ثأرياً، وكأن ذلك التجمع، الذي نشأ في العام 1940 في ظلال الحرب العظمى الثانية وتحت قانون الطوارئ البريطاني، يمثل معلماً تاريخياً لليهود، لا يصح إزالته، أو كأن لـ "غوش عتصيون" جذورا في بلادنا. فما أن وقع احتلال العام 1967 حتى عاد الغزاة الى المكان، جنوبي القدس وبيت لحم، لإعادة استيطانه. وبقوة دفع الذاكرة الاستعلائية والانتقامية، جرى على مر السنوات توسيع الموضع ليصبح منظومة من اثنين وعشرين تجمعاً استيطانياً، لم تطفئ ظمأ هؤلاء الغزاة الخارجين عن كل الشرائع، الى التوسع والتهام الأراضي الفلسطينية. وقد أعلنوا مؤخراً عن سرقة أربعة آلاف دونم، تحت مسمى تمهيدي هو "ممتلكات الدولة" توطئة لبناء المستوطنة الثالثة والعشرين. وهذه الأراضي تتبع لخمس قرى فلسطينية بين بيت لحم والخليل وتلامس ما يُسمى "الخط الأخضر" في مسعى - مع بداية الخريف - لضمان اصفراره وسقوطه!
خطط الاستمرار في التوسع الاستيطاني جاهزة في الأدراج، ويتحين حاكمو إسرائيل الفرص للإعلان عنها والشروع في تنفيذها. وفي واحدة من غرائب سلوكهم وعنادهم، يتعمد هؤلاء ربط مواعيد الإعلان عن المصادرة والشروع في البناء الاستطاني، بأحداث تقع ويرونها تستوجب انتقاماً عاجلاً. كان ثمة إعلان عن بناء وحدات استيطانية، بعد خطف وقتل الشبان المستوطنين. كأنهم يقولون لنا وللعالم، إن أي شكل من ردود الأفعال، الفردية أو الجماعية، على الانتشتار السرطاني للاستيطان؛ يُعالج بالمزيد من الورم. ولا نعلم كيف يمكن أن يتأسس سلام مع أناس يتمسكون بمثل هذا السلوك المُدان من أصدقاء إسرائيل قبل أعدائها. إنهم ماضون على هذا الخط، لا يحيدون عنه، وينعقد رهانهم على مجموعة فرضيات ووقائع مخالفة لسنن التاريخ وحسابات الحياة والاستقرار الإقليمي والمستقبل. من بين هذه الفرضيات، أن العرب أمة ميتة سريرياً، وحتى إن كانت تتنفس، فإن المنطقة غارقة في مشكلاتها بينما الأميركي، حليف إسرائيل، يلعب بالبيضة والحجر، وأن العالم وفي المقدم منه القوى العظمى، لا يقوى على عمل شيء يطالهم، لأنهم باتوا فوق المساءلة ولا يكبح جماحهم كابح!
نحن هنا بصدد دولة تقودها حركة دينية يهودية ظلامية مهووسة ومفعمة بالغرور، يستبد بها الغباء السياسي والعجز عن قراءة عبر التاريخ. وللأسف لا تزال هذه الحركة الأصولية المتطرفة، في منأى عن التأثيم الذي تتبعه اجراءات تتصدى لها، مثلما يحدث مع قوى متطرفة من حركات تتلطى بأديان أخرى، ومن بينها الطبعة الجديدة التي تمثلها "داعش". إن مراكز البحوث في الغرب، تعلم جيداً الأسباب التي جعلت المتطرفين في العالم العربي يتناسلون، ومن أهم هذه الأسباب هوان العرب وعربدة أعدائهم. فقد اهتبل متفاقهون أشرار وجهلة، مؤشرات هذا الواقع، للتغرير بالشباب وتحشيدهم. ونقول للأميركيين ولليسار الاسرائيلي، إن ممارسات هذا الاحتلال وتوسعه الاستيطاني وجرائمه، من شأنها مفاقمة الحال في هذه المنطقة، وأن الأمور تضع مستقبل مشروعهم كله على كف عفريت. نقول أيضاً لهؤلاء المهووسين، الذي يصادرون الأراضي ويزحفون ويدمرون عناصر التسوية، إنكم تقامرون بمستقبل هذه الدولة التي كانت وستظل غاصبة، وأنكم لن تهزموا أمة كبيرة. فالحال العربي لا بد أن يتبدل، وحق الناس في الأرض والمياه والحرية لن يسقط بالتقادم، ولن تحبط المصادرة والمقامرة عزيمة الأمم. بل إن طبائع الشعوب وطبائع الحياة والتاريخ لا تُديم الهوان على الأمم ولا تؤبد انكفاءها الى يوم القيامة!