آخر العروض..وآخر الفرص - احمد سيف
حرب غزة ليست واحدا وخمسين يوما بل بدأت في اللحظة، التي أقدمت فيها القيادة الفلسطينية في رام لله وغزة على تبني نهج مختلف، تعاملت فيه مع فشل السياسة الاميركية ورفض اسرائيل الكامل للحل يوم 23 نيسان الماضي.
فهم الفلسطينيون، أثناء المفاوضات الاخيرة مع اسرائيل وحتى قبل موافقتهم على العديد من المطالب الإسرائيلية الأمنية، بما في ذلك بقاء المستوطنات الكبرى، في عملية تبادل لم يحدد الفلسطينيون ماهيتها، ان إسرائيل نتنياهو، غير معنية بخيار حل الدولتين ولا بخيار حل الدولة الواحدة، وبالطبع اهم من هذا على المدى القريب، فهموا ان خطرا محدقا يعصف بالقضية الفلسطينية، مصدره محاولة إسرائيل التأسيس لخيار ثالث، عبر استغلال الفوضى العارمة المحيطة في فلسطين وتوسيعها، لخلق بيئة تهيئ لتعامل جديد مع القضية بعيدا عن سياقها التاريخي الحالي وفي إطار البحث عن جواب لمعضلة اسرائيل الكبرى، إثر محاولتها القضاء على الحل السلمي كما يتم تناوله تقليديا: حل الدولتين وحل الدولة الواحدة.
تحذير جون كيري، اثر إفشال اسرائيل واللوبي الصهيوني كل جهوده، من تحول إسرائيل الى دولة ابارتهايد، تضمن أيضاً تحذيرا من حل المتطرفين الصهاينة في اسرائيل وفي واشنطن الذي يؤسس لمعازل محاصرة في الضفة، ومن خطوات لتهجير الفلسطينيين ودفعهم بكل الطرق لمغادرة بلادهم بما في ذلك "إغراءات الوطن البديل" والهجرة "الراقية" الى كندا وأستراليا وأوروبا وبعض دول الخليج.
بالتوافق مع ذلك كان عزل إسرائيل لغزة وحصارها، نموذجا مجربا لما يمكن ان تقوم به اسرائيل ضد الفلسطينيين في الضفة وفي فلسطين المحتلة عام 1948. وكان يمكن لغزة، في ظل فشل جهود السلام واستمرار الانقسام ان تغرق في العزلة والأمراض والخراب وان تصبح احياء يسيطر عليها المتطرفون واللصوص، وأن تغرق معها القضية الفلسطينية وحل الدولة الفلسطينية بما لا طاقة للفلسطينيين ومؤسساتهم في منظمة التحرير والسلطة الوطنية على تحمله.
تحسست القيادة الفلسطينية الخطر الماثل اثر اعلان فشل المفاوضات وغياب اي حل سلمي ،وجاء قرار الوحدة ليشكل قرارا مصيريا في مواجهة الاستراتيجية الاسرائيلية للخلاص من القضية الفلسطينية كما عهدناها ويعهدها العالم.
فهم نتنياهو جيدا مغزى القرار الفلسطيني ولم يتوان عن الرد لتدمير المسعى الفلسطيني في المهد عبر تهديد القيادة الفلسطينية اولا واجتياح الضفة ومحاولة إرهابها، ثم ذهابه الى أبعد ما يمكن أن يذهب اليه نتنياهو وجيشه من قتل ودمار وأدرك الفلسطينيون شعبا وقيادة، حجم الاختبار ومعنى الخسارة أو الصمود.
ما بين اعلان رام الله وغزة قرار الوحدة يوم 23 نيسان الماضي وما بين اعلان الرئيس ابو مازن التوصل الى وقف إطلاق النار يوم 26 آب الحالي، أكثر من أربعة شهور امتلأت برواية فلسطينية تقليدية: كثير من التراجيديا ..كثير من الأسى والحزن ..ولكن هذه المرة، وكما مرات سابقة، كثير من الشجاعة والبطولة في غزة وفي رام الله والناصرة.
تخوض إسرائيل أقسى حروبها مع الفلسطينيين الذين اعتقدت انهم سيختفون بعد السطو على بلادهم. وحيث يقف اصحاب المكان عند حافة وطنهم، شبه عزل عسكريا الا من بعض "صواريخ" تحدث القليل من الضرر والكثير من "الهلع" ولكنها أفهمتنا وأفهمت الإسرائيليين، ان جولة اخرى قد توقف الطائرات الى مطار اللد. أي ستصبح اسرائيل بل مطار وبلا ميناء. وسيجرب الاسرائيليون بعض ما أوقعوا بالفلسطينيين والعرب من قتل وتشريد وتخريب وحصار.
انها حروب الشعوب ضد اسرائيل التي بدأت منذ معركة الكرامة في آذار عام 1968.
لم يعد بإمكان القوة الاسرائيلية التي انشأت اسرائيل وحمتها الى الان، ان تواصل المهمة وعلى ساستها ان يفكروا باستراتيجية مختلفة للبقاء، ربما تتوقف اسرائيل وحلفاؤها مليا عند عرض الفلسطينيين الجديد القديم للحل. آخر الفرص وآخر العروض.
في السابق وبعد كل حرب منذ احتلال اسرائيل للضفة وغزة، كان الغرب يبادر ويرسل مبعوثيه ويطلق مبادراته التي انتهت الى الفشل دائماً، انتهت لأنها لا تلبي ما يكفي من حقوق الشعب الفلسطيني وطموحه.
الان يعرض الفلسطينيون ومن موقع مختلف، خطتهم القديمة الجديدة للحل وربما، وقبل فوات الأوان، تلقفتها قلة عاقلة في اسرائيل ومن حلفائها ومن يرى ويتعظ من غزة وما أصابها: قامة تنتصب بعود أشد من وسط الركام.