جُرحُنا في اليمن - عدلي صادق
حين نستذكر نُبل إخوتنا اليمنيين من كل الأطياف، ونسمع ما يجري في هذا البلد العزيز، ونشاهد على شاشات التلفزة، الحشود والحشود المضادة، والحروب والهجمات والاغتيالات، فإننا نتأسى على ضياع أيام الوئام ووحدة الحُلم القومي، وعلى أيام التسليم لاشقائنا اليمنيين بأنهم أصل العرب.
فصائل سياسية تتناحر، في طول وعرض جغرافيا اليمن من أقصاها الى أقصاها. وتصطخب البلاد بعنف بغيض، وبحركات تمرد جهوية، وحرب ضد جناح من "القاعدة" يضرب كلما أتيح له، وإدارة تأثرت سلباً بأحوال البلاد فازدادت سوءاً. وفقر يتعمق وتعز فيه الدراهم إلا في أسواق السلاح والخناجر. وشرائح في الجنوب تطالب بالحكم الذاتي، لأن الدولة، في حالها المسكون بقلق السيطرة، لم تستطع إقناع هذه الشرائح، أن لها من صفات الدولة كونها حَكَماً نزيهاً بين الناس وأن المواطنين سواسية. في هذا الخضم، جمحت النزعات المتفشية في العالم العربي، وكان تفشيها في اليمن مكثف وجارح. هنا، متطلبات الحوثيين تشبه متطلبات الامبراطوريات في بعض جوانبها، لأنهم ــ مثلاً ــ عندما تحفظوا على خطة الرئيس عبد ربه منصور هادي لإعادة بناء الدولة على أسس اتحادية (فيدرالية) كانوا يريدون منفذاً على البحر، لكي يظفر الحوثيون بميناء، طالما أن الخطة تطالب بالمنطقة الجبلية الوعرة التي يسيطرون عليها في منطقة صنعاء، وكأن موانيء الأوطان ينبغي أن تقُسم على أصحاب الاجتهادات الدينية. والرجل، رئيس الجمهورية، عندما طرح خطته، تلقاها أصحاب المواويل بمنطق يجافي فكرة الدولة. بعض الجنوب يخشى إضعافه، لأن الخطة تباعد بين منطقتهم وإقليم حضرموت الشاسع المبشر بالبترول. والنزاع الأهلي المفتوح، يقوم على ثلاثة أثافي واحدها أعتى من الآخر: قوى قبلية ــ مناطقية، وقوى سياسية أبرزها الحوثيون و"التجمع اليمني للإصلاح" و"المؤتمر الشعبي العام" و"الحراك الجنوبي". أما الأثيفة أو الخازوق الثالث، فتمثلها الرموز العسكرية: علي محسن الأحمر، وتجمع ضباط جيش وأمن جرى إقصاؤهم. وتتخلل هذه الأطراف جميعها، قوى غائمة عائمة ومتبدلة، من سلفيين وجماعة ما يُسمى "اللقاء المشترك" وغيرهم!
ثلاثة توظيفات رديئة، للدين وللقبيلة وللجيش، فتحت بطن اليمن ووضعته على كف عفريت. وهذه، بسطوتها الثقيلة، كفيلة بسد الأفق السياسي وإيقاع مشاعر اليأس لدى الأجيال. فبعد أن اشتد ساعد المتنفذين القائمين على هذه التوظيفات الثلاثة، وتفشى فسادها ومحاباتها وتمييزها بين المواطنين، انهارت منظومة الدولة السياسية والأمنية وانفتح الصراع المجتمعي واسعاً، وتدخلت الدول الإقليمية. وللحق، إن هذه المصائب كلها لم تبدأ وتتعاظم إلا في عهد علي عبد الله صالح ومعه علي محسن الأحمر، اللذين اعتمدا أسلوب فرق تسد، وكان لهما في كل عرس قرص، ويبدلان اجندتهما وفق هوى اللحظة وتحالفاتها. هناك زيدية، نشأ في كنفها بدر الدين الحوثي الذي أسس حزباً بمسميات متتابعة توحي بالأخذ بناصية الحق والإيمان وعداء أميركا وإسرائيل، وارتبط بإيران. في الوقت نفسه كان هناك مقبل الوادعي الذي سجل نشاطاً للسفلية وصفته أوساط دينية بالنشاط الوهابي. بدر الدين الحوثي سافر الى ايران ومكث فيها نحو عشر سنوات وعاد، والوادعي سافر الى السعودية ومكث فيها سنوات ثم عاد. والاثنان في محافظة صعدة شمالي البلاد، وعلي صالح مع على الأحمر يلعبان على الحبلين وبالبيضة والحجر، ويناوران توخياً للدعم من إيران والسعودية، وبدأت القصة الحزينة!
الانصراف عن التنمية وبناء مؤسسات الدولة وإقامة نظام الحكم المحترم، يجلب الخراب. جميع اليمنيين يعانون اليوم. كانوا في سنوات الأمل والطموح القومي لا يخشون انهياراً ولا كابوساً ولا اغتيالاً. هناك شريط فيديو على "يو تيوب" فيه لقطات من زيارة جمال عبد الناصر لليمن في منتصف الستينيات. بحر هائج من الناس، بخناجرهم وبنادقهم العتيقة وصنادلهم وبجلابيبيهم يرمحون لتحية الزائر الذي يمر بينهم بسيارة مكشوفة، ولا وجود لافتاً لرجل أمن واحد. كانت تجمعهم مشاعر وطنية وقومية وطموحات ارتقاء. غير أن ثالوث الشروحات الرديئة لمذاهب الدين، ولهيبة القبيلة ولمهام الجيش، دمرت كل شيء، لنُصاب بجرح آخر.. في اليمن!