وردة على تراب طريّ - احمد دحبور
لست ادري لماذا او كيف برزت لذاكرتي صورة ذلك الفتى السوري الوسيم. انه جميل حتمل، رحمه الله، وكان قد ظهر في دمشق، اشبه بنسمة عطر ذات جوانب حادة، كنا لا نزال في العقد السبعيني من القرن الفائت، وكان ذلك الفتى هو ابن الفنان التشكيلي المعروف ألفريد حتمل، ومن عجب انه كان يكتب متأثرا بأسلوب القاص الكبير زكريا تامر، من حيث اناقة اللفظة ورهافة الصورة وجسارة الفكرة، مع فهم ملحوظ لدقائق اللغة العربية واسرارها.
لم نأخذه، في البداية، على محمل الجد، ولكن ما ان نشر مجموعته القصصية الاولى حتى لفت الانظار، كالشاب الذي اقتحم ديستويفسكي بيته ليبلغه بأنه كاتب موهوب ذو مستقبل واعد، الا ان العمر لم يمهل الفتى، فقد مضى جميل بسرعة خاطفة، لنشعر بعده بالحرج الاليم، لانه كان يشكو احيانا من قلبه العليل، ولم يكن وجهه المشرب بالحمرة مع شعره الاشقر وعينيه الزرقاوين، ليوحي بأن سنواته على الارض ستكون قصيرة الى هذا الحد.
وكان لدى هذا الشاب الوديع الخجول، جوانب حادة مفاجئة، فلم نكن لنفهم انه سيكتب ضد صديق لنا، فيصفه حرفيا بالسافل، ولم يخطر لنا بحال انه كان منتسبا الى تنظيم ماركسي متطرف، ما يتناقض مع براءة وجهه وسلوكه.
يوم قرأت اول قصة لهذا الفتى، باغتني بعذوبة شاعريته وعفوية خياله، وازعجني بشكواه من شبح الموت الذي كان يلازمه، وكنت اظنه يستدر الشفقة، الى ان ايقظني ذات يوم - وكنا نشارك في مهرجان جرش الاردني - وهو يلهث مرعوبا وقد تخضبت عيناه بالدموع: ادركني سوف اموت.. واسرعت واسرع من حولي فأمكن لنا اسعافه يومها، لكن ما كل مرة تسلم الجرة، فقد انتصر قلبه عليه، وكان في بداية عطائه الواعد، فخلف دموعا وحسرة، وها هو ذا يعود من باب الذاكرة..
ولن انسى قصة قصيرة له بعنوان: كيف قتلت جدتي؟ او شيء من هذا القبيل، وكانت فكرتها على ما اذكر، تدور حول فتى شقي ماتت جدته خوفا عليه، فقد كان الموت، هذا الشبح الصارم، يلاحقه ولا يخيفه الا بمقدار ما يتخيل الحزن الذي سيسببه لجدته واهله..
اما العجيب الطريف حقا، فهو طيب معشره وتهذيب ادائه: لقد سمع يوما قصة عن شاعر معروف متورط بسرقة مادية موصوفة، فسألني بشيء من التحرج والحياء: هل صحيح ان فلانا يقترب من اشياء ليست له؟ فقد غلبه الحياء والادب ولم يذكر كلمة السرقة، كأن مرور هذه المفردة على لسانه، كان سيلوث ادبه وتربيته الكاثوليكية..
والى ذلك، لم يكن رحمه الله متدينا، حتى انه فكر ذات مرة في تغيير معتقده، مع ان الفكرة كانت مجرد نزوة، ولكن مجرد مرورها في ذهنه يعني انه لم يكن مدججا بأفكار الصبا والاحلام المتعصبة..
على ان هذا الفتى الوديع المسالم، كان ابا حقيقيا، فقد كان ابنه الفريد اغلى من اي موجود في حياته، وكانت تراوده احلام يقظة بأن تتم طباعة «اعماله» لتعود بالفائدة على ابنه وكان يرسم - في مخيلته- فراشات من نور، تحرس ابنه الفريد وتتعهده بالرعاية والحدب.. ولعلي ما زلت اذكر كلمات للاب الصديق الياس زحلاوي، حول هذا الجانب من شخصية جميل، فكان يقول: لتحرسه السماء والروح القدس، فهو ابن صالح بقدر ما هو اب صالح وصديق صدوق..
والآن، وهو في رعاية الروح القدس، اتساءل عن الوفاء المطلوب من القائمين على المشهد الثقافي، فهذا الفتى - جميل الفريد حتمل، او ابو الفريد كما ناديناه احيانا، لم يترك لنا ارثا كبيرا حتى نعجز عن اعادة طباعة قصصه، ولعلي اعلن لهذه المناسبة اني مستعد لطباعة هذه القصص على نفقتي اذا امكن جمعها.. وليست هذه اريحية متأخرة، بل نتيجة احساس بتقصير المؤسسات الرسمية تجاه الكثير من المبدعين، وشعور بالواجب تجاه موهبة جهورية..
رحم الله جميلا، فقد كان جميلا في الصورة والاخلاق والوعد، واذا كان لا ينفرد بهذه الصفة فهذا يعني ان واجبا كبيرا يظل ملقى علينا نحن معشر الشهود الاحياء..
وما دمت بعيدا بحيث اعجز عن زيارته، فلتكن هذه الكلمات بمثابة وردة من الروح على ترابه الطري، والى الملتقى..
بقي ان اشير الى اني وضعت هذا العنوان، متأثرا بعنوان مقالة للفرنسي اندريه جيد، كتبها في رثاء الكاتب الكبير اوسكار وايلد بعنوان «وردة على قبر مهمل».