دفتر التلفون - حسن الكاشف
قبل عشرين عاماً لم يكن الهاتف المحمول (الجوال) معروفاً، على الاقل بالنسبة لي. ولم يكن شائعاً في يد الكبار والصغار الاغنياء والفقراء، كان زمان التلفون الارضي دون منافس، وكان التطور في الاتصالات يرتبط به، وتذكرون بالتأكيد ان جهاز الفاكس يحتاج الى التلفون، لهذا كان دفتر التلفون ضرورة.
كلنا كنا بحاجة الى دفتر تلفون في منازلنا وفي اماكن عملنا، فلم تكن الذاكرة قادرة على حفظ كل ارقام هواتف الاقارب والأصدقاء وزملاء العمل وكل من لنا بهم علاقات عمل.
قبل أيام، وانا ارتب اوراقي، وجدت دفاتر التلفون التي احضرتها معي من بغداد الى الوطن قبل قرابة عشرين عاماً، وكانت ثلاثة دفاتر، دفتر البيت، ودفتر الجريدة التي عملت فيها اكثر من عشرين عاماً، ودفتر المكتب الذي كنت اعمل فيه لراديو مونت كارلو وجريدة الحياة اللندنية.
توقفت عن ترتيب اوراقي وأخذت اتصفح دفاتر التلفون وهي سجل اسماء كل الاصدقاء والجيران والزملاء، ليس في بغداد وحدها، بل في كل العواصم التي كنت اتردد عليها بحكم العمل او لحضور اجتماعات الامانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. والعواصم التي كنت ازورها ولي فيها اصدقاء ومعارف.
انهى الجوال هذا الجهاز الصغير الحاجة الى دفاتر التلفون، بل انه انهى الحاجة الى المفكرة الصغيرة التي كانت في جيوبنا وفيها ما نحتاج من ارقام الهواتف اصبحت دفاتر التلفون من الماضي القريب الذي يبدو الان بعيداً مع سرعة التطور.
في دفاتر التلفون قابلت المئات من الاصدقاء والزملاء والمعارف، وعادت ذكريات سنوات مع اعزاء باتوا في البعيد، بعضهم، وهم كثير من الاعزاء، انتقلوا الى رحمة الله، كانت اخبار موتهم تصلني عندما اقابل صديقاً كان في سفر وعاد يحمل اخبار من ماتوا، لم اشطب اسماً واحداً، فهم احياء في القلب والذاكرة. فارق هذه الدنيا زملاء لي في جريدة الثورة العراقية. ومات زملاء من المراسلين الذين شاركتهم رحلات عمل على طول الحدود العراقية الايرانية عندما كنا نغطي وقائع الحرب العراقية الايرانية.
مات بنايوتي بسكالس ذلك الصحفي القبرصي التقدمي الذي امضى سنوات في السجون الاسرائيلية في السبعينيات من القرن الماضي, كان الشهيد خليل الوزير قد اقنعه بالعمل معه، وبالفعل قام الصديق العزيز بنايوتي باكثر من زيارة للارض المحتلة كصحفي قبل ان تعتقله اسرائيل وتحكم عليه بالسجن سنوات، رحم الله بسكالس صديق الشعب الفلسطيني وصديق عدد كبير من الزملاء الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
في الدفتر الخاص بالمنزل اسماء اصدقاء فلسطينيين كانوا يقيمون في بغداد مثلنا، ارتبطنا معهم بصداقات وزيارات دائمة في الاعياد وايام العطل، لم نكن جيرانا في السكن ولا زملاء في العمل مع ان علاقاتنا كانت يومية, كان الفلسطيني يبحث عن الفلسطيني ويعتبره كل عائلته واقاربه.
عدد من هؤلاء الاصدقاء عاد الى الوطن, لكن العلاقات اختلفت مع اننا لم نختلف, بل لاننا غرقنا في علاقات الاهل والاخوة والعائلة والابناء, عدا اولادنا وبناتنا الذين تزوجوا واصبح لكل منهم اسرة, اقول بل لان علاقات الاهل طغت على علاقات الاصدقاء الذين كانوا هم الاهل.
دفاتر التلفون سجل لمن غيبهم الموت من اصدقاء كثيرين, وسجل لمن بعثرتهم الدنيا في بلاد كثيرة فقدنا الصلة بكثير منهم, وسجل لاصدقاء مفقودين لا نعرف لهم عنوانا او مصيرا.
مات ابو جعفر في البرازيل, ابلغني صديق, كم حزنت, كان ابو جعفر مقاتلاً في جبهة التحرير العربية وبعد بيروت اقام في بغداد مع عائلته ثم ذهب مع عائلته الى البرازيل مع العائلات التي تم نقلها من العراق الى هناك, انتهت رحلة ابي جعفر في البرازيل, تركنا الذين استشهدوا او ماتوا في بلاد عربية او اجنبية, ماذا حل بعائلاتهم في هذا الاضطراب العربي الدامي ؟!
امضيت ساعات من الذكريات وقررت الاحتفاظ بدفاتر التلفون كما هي.