من وحي مدرسة الصغار- عدلي صادق
ليس أوسع من الوطن مهما ضاقت مساحته أو حوصر. وما أضيق الغربة حتى وإن كانت شاسعة ومفتوحة كالسماء. فقد وصلت الى رام الله مساء قبل نحو أسبوعين، وفي صبيحة اليوم التالي، اصطحبت أطفالي الأربعة الى المدرسة الأميرية القريبة، في "أبو قش" على بعد كيلومتر واحد من منزلي في قرية "سُردا" التي يقوم في خاصرتها الغربية، الحي السكني الجديد. هما قريتان صغيرنان، تبعدان خمسة كيلومترات عن رام الله. وخلال الدقائق الخمس الأولى، تم تسجيل التلامذة، كلٌ في صفِّه، ودفعنا الرسوم الزهيدة، وهي نحو ستين دولاراً في السنة، عن الأربعة، ولم تنته الدقائق الخمس الثانية، حتى كان الأولاد قد تسلموا الكُتب المقررة، وأعطيت لكلٍ منهم، ورقة بما يتوجب عليهم التزود به، من كراسات وأقلام وهندام مدرسي موحد، مع توصيات تتعلق بالنظافة وتقليم الأظافر وقص الشعر. وفي صبيحة اليوم التالي، كانوا في طابور الصباح، فهتف التلامذة بالنشيد الوطني الفلسطيني، ثم تلا واحد منهم، بعض عبارات، تحث على المثابرة وعلى السلوك القويم!
كنت حسمت أمري، ألا اقترب من مدارس المشروعات الاستثمارية الخاصة، التي يُقال عنها إنها تؤسس الطفل على الرطانة الطليقة باللغة الإنجليزية. فالمدارس التابعة للحكومة، أدخلت في مناهجها تعليم اللغة الانجليزية للأطفال، منذ السنة الأولى الابتدائية. ثم إن الفلسطيني، في حكايته مع التعليم، وهي إحدى أكثر ملاحم كفاحه من أجل النهوض وإثبات الجدارة؛ لم يعرف في صغره المدرسة الخاصة أو المدرسة المترفة. فقد اعتمد على نفسه وكان التحصيل والنبوغ فيه، تحدياً وجودياً. وعندما يكبر ويرتاد الآفاق، كان يتذكر بكل الحنين، مدرسته الأولى ومدرسيه الأولين الصارمين. وإن كان من الجيل القديم، ظل يتذكر متفكهاً، عصا المعلم أيام كانت لصيقة به، مكمّلة لهيبته، ووسيلة تأديب أو تلويح، لا وقع عميقاً للكلام دونها!
الفلسطيني، الذي أتم تعليمه الأساسي في وطنه، بعد استلاب 1948 ثم ارتحل الى ألمانيا مثلاً ونبغ فيها؛ لم يكن في صغره تأهل للتحصيل العلمي، في مدرسة ألمانية خاصة. حطَّ الرحال هناك قبل أن يعرف كلمة واحدة بلغة الألمان. كان رهانه على إرادته وذكائه وطموحه وعلى كونه صاحب رسالة سيؤديها، ويعرف أن من ورائه أسرة علقَّت عليه آمالاً كبرى، وأن معيار سعادته واعتزازه بنفسه، هو الإنجاز الذي يتيح لأسرته وللأقربين المباهاة به. ومثلما لم تتوافر له المدرسة الخاصة وحافلات النقل الأنيقة أو حتى الرثة؛ كانت دنياه، في المغترب طلباً للعلم، خالية تماماً من وسائل الاتصال مع الأهل، فلا هواتف ثابتة موصولة بأقمار اصطناعية، ولا هواتف نقالة ذكية، أو "فيس بوك" ولا برامج لحوارات مصورة عبر شبكة العنكبوت. وكانت وسيلة الطمأنة هي الرسالة المكتوبة التي تصل الى أهله في القرية، بعد شهر أو أكثر. ففي ممارسته لكتابة الرسائل، كان يحافظ على لغته العربية ويتأنق فيها ويلتزم عند بدئها، بأصولها وعباراتها التقليدية، بدءا من "أما بعد" وهي العبارة الخالدة، التي اخترعها الحكيم الجاهلي الفصيح قس بن ساعدة، وانتهاء بعبارات ترسم صورة تقبيل الأيادي الطاهرة، مروراً بــ "إن سألتم عني فإنني بخير، اشتاق اليكم مثلما يشتاق الزرع الى الماء والعليل الى الدواء". ففي لغته تلك، التي يخطها، في رسالة من مكان لا يشتاق فيه زرع الى ماء، لكثرة الأمطار والأنهار والينابيع؛ يظل طالب العلم عربياً فلسطينياً، يتوخى الغيث في قرارة نفسه!
قريتا "أبو قش" و"سُردا" شأنهما مع اسميهما شأن مدينة رام الله مع أسماء أحيائها وشوارعها. هي أسماء إما غامضة ومحيّرة أو جارحة، كأنها صُنعت لدفع الحَسَدْ. أجمل الأحياء هو "البالوع" وهناك "الماصيون" و"أم الشرايط". والشارع الرئيس في وسط المدينة ليس إلا "رُكَبْ". هذا هو اسمه، والشارع الأطول هو "الإرسال" نسبة الى هوائي للإذاعة الفلسطينية في زمن الانتداب كان قائماً في الثلاثينيات. ليتهم سمّوه شارع الإذاعة، تخليداً لعملية إنقاذ معدات الإذاعة ومكتبتها من القدس الغربية قبل سقوطها وترحيلها الى رام الله حيث يرتفع أحد هوائياتها الثلاثة!
إن "سُردا" و"أبو قش" جارتيْ "بير زيت" قائمتان في أرض ناهدة ازدانت بألوان الزهور. تذكرني "سُردا" بالمغترب الفصيح الراحل موسى السرداوي، وحكاياته عن مكابدات الوصول مشياً على الأقدام، الى بلدة رام الله (آنذاك) وأحاديث الشعر.
بين أسوار المدرسة تنمو الأحلام، ويشب الصغار على حب الأرض والوطن ويتطلعون الى المستقبل، بتفاؤل يلامس اليقين، رغم ليل الاحتلال البهيم!