حظوظ أسماء وسُكّرٌ زائد - عدلي صادق
في تغريدة يوم السبت المنصرم، كتبنا عن "البيك سُكَّر" وهذه تسمية سمعتها من أحد الأصدقاء قبل سنوات طويلة، لشخص لم أعرفه، مع توصيف له ولإحدى اللقطات في أيامه، قوامها أنه كان يتهندم ويقصد شاطئ البحر، ويلاعب نفسه طاولة الزهر، مفترضاً أنه ينازل إبليساً أو شبحاً فيغلبه. وللحق إنني ظننت التسمية لقباً لشخص واحد بعينه، اختصه به مستظرفوه، لكن بعض صدى المقال عاد اليَّ من أربع رياح الأرض، بارتجاع من نوع آخر: فـ "البيك سُكَّر" هو اسم عائلة يافيّة ممتدة، وما كتبته في وصف سمات شخص بعينه، إنما ينطبق في بادئة السطور، على الراحل أحمد البيك سُكّر، وهذا هو اسمه فعلاً. لكن العائلة نفت الاستطراد الذي تأسس على حديث صديقي الراوي قبل سنوات طويلة. فـ "البيك سُكَّر" كان واحداً من وجهاء يافا ومن رواد أعمالها البحرية، إذ أسس في العام 1900 شركة "عربية للنقل البحري" انتقل بها الى غزة بعد الهجرة، وكان قد مد عمله الى أطراف البحر المتوسط، فاستأجر سفناً من وكالات أجنبية لزوم تصدير الحمضيات الى أوروبا الشرقية وروسيا. وامتلك هو وإخوته سفناً، وعمل في التجارة إذ كان يجلب لتجار غزة السلع التي يحتاجونها، وقد ورد اسمه مع صورته بالطربوش، في كتاب "من رجالات يافا في فلسطين".
وفي الحقيقة، أحسست قبل توظيف اللقطة التي سمعتها عن طاولة الزهر، أن شيئاً ربما كان يشفع للرجل لكي يطلق عليه مستظرفوه لقباً حلواً. ذلك لأن المجتمع الفلسطيني، ومعظمه كان ريفياً، يميل عند إطلاق الألقاب التي جَرَت كأسماء؛ الى الدعابة العيّابة، حتى انطمرت الأسماء الأصلية التي اختارها الأولون لأنفسهم، تحت ركام التداول الدارج للأسماء العيّابة كجاموس وناموس وجراد وبرغوث وصرصور وفار وجربوع وسواها من أسماء عائلات كريمة مكتملة الآدمية خُلُقاً وخلقةً، لكن هذه الأسماء أثقلت على من حُمِّلوها، في هوامش الحياة عند الشجار والخصومة والتندر، ناهيك عن أسماء استعيرت من توصيفات العاهات والنواقص، كالأعور والأشوح والأعرج والأزعر والأكتع وغيرها. ومحظوظون أولئك الذين افلتوا بأسماء المهن، كالنجار والحداد والخطيب والخياط والبنّا والحصري والسقا والقُللي وصُب لبن وما شابهها. وكانت للعرب القدامى في الجاهلية، ملاحظاتهم النقدية على الأسماء قبل أن تنحدر معانيها الى حضيض الزواحف والنواقص والعاهات. فقد سأل أعرابيٌ أعرابياً من قبيلة أخرى: ما اسمك؟ فأجاب: منيع. عاد الأول وسأل: منيع بن مَن؟ فأجاب الثاني: ابن شديد. وسأل الأعرابي الأول: شديد بن مَن؟ قال الثاني: ابن حديد. فصاح الأعرابي الأول: ويْحَكُم.. لا أحسب الأقفال إلا صُنعت من أسمائكم.
معنى ذلك أن "البيك سُكّر" كأنما وُلد في الأرجوان، على نحو ما كان يصف الفينيقيون محظوظاً منذ الولادة. فاسمه لا يجعله متلقياً للتحلية وحسب، وإنما يضعه في حال المنقطع الى فعل هذه التحلية دون سواه، متفوقاً على عجوة والعسلي وابو عسل ونمورة وحلاوة. ونلاحظ في أحوال الغم الراهن، فقراً بائساً في مخيلات المعنيين بإطلاق الأسماء على الأحياء والطرقات، يُضاهي انسداد السياسة والمقاومة. ففي رام الله والبيرة مثلاً، تكرّست الأسماء الصماء أو تلك المبهمة بطابعها الذي ينم عن خمول مخيلات المعنيين بتعيين أسماء الأحياء ذات العمائر البديعة. فهناك "البالوع" و"الماصيون" و"أم الشرايط" و"رُكَبْ" و"الإرسال" وهذه جُل المدينة. غاب التاريخ وحضرت "سَرية رام الله" تيمناً بفريق من الكشافة، حتى بدت قرية "أبو قش" بين رام الله وبير زيت ذات اسم معقول.
لم يصدق خميس البيك سُكّر، أننا لم نتقصّد جده المرحوم أحمد البيك سُكّر. ربما اقتنع أننا فخورون برجالات فلسطين، ومنهم أمثال جده عندما نتعرف على سيرته. ومثلما كان الجد محظوظاً بالتسمية والتحلية، كان محسوبكم محظوظاً عندما تأكد أن مقالته تُقرأ في أماكن بعيدة وقريبة. وحيال الالتباس، لا يسعني إلا الإعراب عن كل التقدير لعائلة "البيك سُكّر" الكريمة مع الاعتذار لها بشجاعة وصدق، عن أي إزعاج نجم عن سطور التوظيف الأدبي للقطة بعينها، وهي على أية حال، لقطة تتعلق برجل قيل إنه كان يلاعب نفسه طاولة الزهر، وهذا أفضل بكثير من ملاعبة الآخرين وخداعهم، أو من اللعب بالناس ومصائرها بدل الحجارة، مثلما نرى في أوقاتنا وأوطاننا.