فلشر' رمز التعايش
بدوية السامري
كان الكاهن الأكبر للطائفة السامرية توفيق وفي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي يصر على اصطحاب أولى حفيداته وتدعى سلوى يومياً إلى 'المدرسة المسيحية الوطنية' الملاصقة لكنيسة القديس فيلبس القريبة من مكان سكنهم وسط مدينة نابلس.
الكاهن يؤمن بالتعليم والتنور والتنوع، خاصة للفتيات ككثير من أتباع الديانات الثلاث في مدينة نابلس الذين ضموا أبناءهم للدراسة في المدرسة المختلطة الأولى في المدينة.
وقالت سلوى 'أم خضر' التي تقارب 86 عاماً من العمر الآن، كان جدي توفيق يمسك بيدي كل يوم ليوصلني حتى باب الصف، يقف في إحدى الزوايا ليتحدث مع الأب حينها، لا أذكر اسمه، لكنني أذكر أنه كان يسأل عني المعلمات ليديا، وملكة، وسمية، وهؤلاء لا يمكن لي أن أنسى أسماءهن.
وأضافت بسعادة غامرة: كان الجميع يحبون قدوم جدي بلباسه الكهنوتي ودخوله إلى المدرسة، يرحبون به كما لو كان أخاً أو أبا لهم، أحن إلى هناك دائماً، كنا جميعاً كإخوة.
أم خضر ما زالت إلى الآن أتقن حروف اللغة الانجليزية، وترددها أمام أحفادها وتخبرهم في كل مرة أنها تعلمتها من 'الفننشر'.
وقال الأب إبراهيم نيروز إن أهالي نابلس حتى الآن يطلقون على المدرسة 'الفنشر'، بينما هي تعرف بـ'الفلشر'، نسبة إلى المستشرق الألماني كريستيان فلشر، الذي كان على دراية إلى ماذا سيؤول إليه تناغم الأديان عندما بنى الدير في مدينة نابلس بالضفة الغربية.
فنابلس طالما احتضنت الديانات في تناغم، يشكّلون لوحة فسيفسائية مميزة بتنوعها وتناسقها، حيث يقطن الآن في المدينة أكثر من 33 ألف مسلم، وأكثر من 750 مسيحيا، و380 سامريا.
وداخل كنيسة القديس فيلبس ثمة صورة تجمع طلاباً من مختلف الديانات في القرن قبل الماضي، وبالتحديد منذ العام 1890 مع معلمهم حينها، وفي الصورة لا يمكن أن تفرق الأطفال عن بعضهم البعض، ولا في أية علامة، فهم يمثلون مجتمعاً متجانس فكرياً وثقافياً.
وتذكر الوثائق الخاصة بالمدرسة كما يقول الأب إبراهيم نيروز، أن المدرسة افتتحت يوم 5/9/1848 والتحق فيها 21 طالباً وطالبة، طالب يهودي واحد، و5 طلاب سامريين، و8 طلاب مسلمين، و7 طلاب مسيحيين.
وكانت تأسست كنيسة القديس فيلبس الأسقفية العربية سنة 1846، والروضة عام 1848، وبنيت الكنيسة في العام 1879 لتخليد حضور القديس فيلبس إلى المكان وتأسيسه الكنيسة في نابلس في القرن الأول الميلادي.
وكانت المدرسة المسيحية درّست مادة الجغرافية أيضاً لأول مرة في كافة المدن، وقال الأب نيروز إنها أول مدرسة تحضر الخرائط من أوروبا، كانت تدرّس اللغتين الانجليزية والعربية، والرياضيات، والجغرافية، والدين وهو الأخلاق والمعاملة.
وبقيت المدرسة النظامية والمختلطة فاتحة أبوابها للطلبة حتى العام 1960، حيث تحولت بعدها إلى روضة أطفال حتى يومنا هذا.
وأشار الأب نيروز إلى أنهم بصدد إعادة افتتاح المدرسة من جديد، حيث ستباشر العام القادم بالصف الأول فقط، وبعدها صفان وهكذا.
وقال إن الكثيرين ومن مختلف الديانات وخلال العقود الماضية كانوا يحنون إلى طفولتهم ويزورون المدرسة.
وهناك في إحدى الزوايا تظهر مئذنة مسجد الخضر، تقابلها الصلبان ويشهد عليهما جرزيم الجبل المقدس للسامريين. وكانت منحت الكنيسة قطعة من أرضها لبناء مسجد الخضر المجاور لتكون هذه علامة هامة للعيش المشترك بين أفراد الديانات الثلاث في مدينة نابلس.
وكان مبنى الكنيسة شهد فعاليات مخيم صيفي 'نادي المحبة والسلام' في ثلاث سنوات متلاحقة جمع أطفالاً من الديانات الثلاث ليعيد التاريخ عشرات السنين إلى الوراء، ليظهر للعالم أجمع أن نابلس هي مدينة التعايش المشترك ولا يمكن أن يغيرها الزمن.