عقدة الجنرالات في دولة الارهاب- ياسر المصري
لقد أنتهى عهد الجنرالات في المجتمع الاستيطاني العنصري، وولى مع ذلك العهد عهد التوسع وصياغة أكذوبة التفوق، وثبت بالوجه القاطع عري هذا الكيان من كل صيغ القيم وانهياره الى مستويات الحضيض كدولة ارهاب واحتلال وعنصرية، فقد حاول اسحاق رابين (الجنرال ما قبل الأخير) أن يطيل من مقدرة دولة الاحتلال الاستيطاني على البقاء، عبر اتخاذه لاستراتيجية الفصل ما بين الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الأصيل وشعب دولة الاحتلال والاحلال، وكان تولد هذه الاستراتيجية نتاج انتصار ارادتين في الشعب الفلسطيني، ارادة القادة الأوائل من جيل النكبة والنكسة، في حفاظ هؤلاء على الهوية الوطنية الفلسطينة وصناعتها وخلقها متألقة وراسخة، وارادة الداخل في الوطن المحتل في حفاظهما على جغرافيا البقاء والتمسك بالأرض، وهاتين الارادتان هما ما أوصلا (الجنرال ما قبل الأخير ) الى قناعة بأن دولة الاحتلال لن تستطيع ان تخلق نكبة جديدة ولن تستطيع أن تكسر جوهر هوية راسخة، ومن هنا اتخذ المسير في استراتيجية الفصل كمسار سياسي عبر البحث عن فرصة للفصل بين الشعبين.
وقد أفشلت العقلية الاستعلائية والعنصرية المنبعثة من المدارس الدينية اليهودية استراتيجية (الجنرال ما قبل الأخير)عبر اغتياله برصاصات كان معناها أن لا وجود للسلام في ظل تنامي التطرف الديني والعنصري في المجتمع الاستيطاني، الى أن تقدم الجنرال الأخير(أرئيل شارون) باستراتيجية محاولة الغاء فكرة السلام والحل القائم على أساس الدولتين ،عبر اتخاذه لاستراتيجية الانسحاب أحادي الجانب وتغييب الشهيد ياسر عرفات عن المشهد السياسي بوصفه عقبة أمام الاحتلال،وهذه الاستراتيجية كسرت من خلال ترشح السيد الرئيس محمود عباس لانتخابات الرئاسة وفوزه شعبيا، ضمن برنامج أنتخابي مقبول فلسطينيا واقليميا ودوليا، رحلت أوهام الجنرال الأخير (شارون) من قدرته على خلق امر واقع جديد يفضي الى افراغ الحالة السياسية الفلسطينية من قدرتها على مخاطبة المجتمع الدولي واستخدام النضال الفلسطيني في اتجاه محاصرة الاحتلال ودفعه للرحيل، مستندة هذه الرؤية على التحول في الساحة الفلسطينية الداخلية ونجاح حماس في الانتخابات التشريعة، والتي عمل على استثمارها الجنرال الأمريكي دايتون لتعزيز الاشتباك الداخلي الفلسطيني وما نتج عنه (الانقسام )، وهنا كان السيد الرئيس مدركا لخطورة خلق حالة ضعف فلسطيني داخلي ورغم وجود هذه الحالة تمسك باستقطاب المجتمع الدولي والحفاظ دوما على وجود غطاء سياسي ودبلوماسي عربي على مستوى الاقليم والمنطقة، وهو ما نتج عنه مجمل القرارات الدولية ووجود حالة انطلاق سياسي فلسطيني على الساحة الدولية ووجود حالة نبذ شاملة للاحتلال والاستيطان كأحد نتائج لهذا الاحتلال الاستيطاني.
يطل اليوم شبه الجنرال بوغي يعلون وزير حرب الاحتلال الاستيطاني في مقابلة مع صحيفة اسرائيل اليوم، ليطلق وجه أخر لرؤية اسرائيل الاستيطان والاحتلال لنظرتها ورؤيتها للسلام ويكشف عن جوهر الاستراتيجية الاسرائيلية للحل القائم على أساس الدولتين، بتصريحه أن الدولة الفلسطينية لن تقوم وان السيد الرئيس ليس شريكا بالسلام، هو وهم جديد متجدد وذريعة قديمة تستخدمها ادوات الاعلام السياسي الاسرائيلية، بوصف الرئيس بأنه ليس شريكا وانه عقبة وقد يكون هذا التصريح مقصودا فيه الى جانب الفلسطينيين أيضا المجتمع الدولي خصوصا بعد المسار الذي اتخذه السويد للاعتراف بدولة فلسطين وكذلك تصويت مجلس العموم البريطاني بالأغلبية الساحقة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، وما يرافقه هذا الى وجود تعاطف شعبي أوروبي يفرض على السياسي الرسمي شكلا جديدا من التعامل مع القضية الفلسطينية(ايجابي).
نعم السيد الرئيس بكل دلالاته وهامته وتاريخه لم ولن يكون شريكا للاستيطان وهو عقبة حقيقية بايمان أمام وجود الاحتلال واستمراره، وان كل المراهنات التي تحاول اسرائيل من خلالها تحقيق رؤيتها واستراتيجيتها للمرحلة القادمة هي فاشلة بفعل عدة عوامل راسخة فلسطينية، يمثلها ويجسدها السيد الرئيس في هذه المرحلة، فان كان الشهيد الراحل ياسر عرفات قد وضع اطارا للسقف السياسي لما يسمى بحل الدولتين، فان السيد الرئيس أبو مازن قد أرسى شكل الحل في أي مرحلة قادمة، يقوم على أساس الشرعية الدولية وأن الدولة لا حدود لها سوى كل الأراضي المحتلة العام 67، وان العامل الزمني لم يعد رهينا بيد الاحتلال الاستيطاني اذ لا بد من وجود سقف زمني واضح وثابت يحدد مسار المفاوضات ونتائجها، وان الشعب الفلسطيني ضحية الاحتلال وبهذا هزيمة للدعاية الاحتلالية التي لطالما بثت وروجت لعكس ذلك (الجلاد على هيئة الضحية والضحية على هيئة الجلاد).
وهذا ما دفعني للتمعن باهتمام وشغف لنص خطاب السيد الرئيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأمتلأ بي الوصف بأنه عبر عني ومثلني، وعبر عن أجيال كل القضية الفلسطينية وحتى جيل ما قبل الاحتلال، وأن مضمون هذا الخطاب شكل وسيشكل بداية انعطاف لشكل ومضمون القادم وعلى المدى البعيد، وان العطش للحرية لا يساويها شيء وأن الوجود بكرامة أعظم من نص الكلمات وتوالي الأحداث ومخرجات كل المؤامرات، فقد كانت هي المرة الأولى منذ اتفاقية أوسلو الذي يوصف بها هذا الاحتلال ب ( الاحتلال العنصري الاستيطاني)، وقد تكون من المرات المهمة التي نعتلي بها من نص كلمات هذا الخطاب بامتياز أخلاقي وانساني فوق هذا الاحتلال ومجرميه، بقول السيد الرئيس ( ترسيخ الارث التنويري الفلسطيني في التسامح والتعايش وعدم الاقصاء ) ولعل هذا الارث العميق هو الذي جعل لدى القادة الأوائل وصانعي الهوية الوطنية الفلسطينية فكر حل الدولة الواحدة، ولعل في هذا الارث ما يدفع الصهيونية الاحتلالية العنصرية الى التناغم مع عقيدتها التاريخية (القتل والهدم)، لكونها كما أشار السيد الرئيس نقيضا بائدا وبائسا لهذا الارث التنويري المتسامي فوق الظلم والجراح، وهذا ما يدفعهم (الصهيونية الاحتلالية العنصرية) الى العمل الدائم كما ورد في نص الخطاب( ضرب هذا النموذج لأنه نقيض جوهر سياساته الاستيطانية ولأنه يريد تدمير فرصة تبلور الكيانية الفلسطينية في دولة مستقلة ضمن حل الدولتين)، وهذا ما يدفع الاحتلال الى ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولكن الاحتلال ليس أكثر ما يخشاه كامنا في هذه الوحدة، بل هناك ما هو أشد وأبعد والوحدة نتاج وجوده وترسيخه في ثقافة المجتمع الفلسطيني، فالاحتلال يخشى من جمالية حلمنا، ويخشى من رسوخ وعينا الكلي والوطني، ويخشى من ارثنا التنويري الذي أكد عليه السيد الرئيس أمام الأمم والفضاء المفتوح، وبكل هذا الارث وما به من مفاهيم ونهج وامتياز سلوكي، يطلق الاحتلال الاستيطاني العنصري دوما سمومه وأزماته التاريخية للنيل من كل ما هو متناقض معه جوهرا وسلوكا وقيما.
وهنا أستذكر تصريحا لأيهود باراك منتصف العام 2001 بعد مقتل مستوطنين بالقرب من قرية بيتين – رام الله، حيث صرح : علينا أن نغير وعيهم، وكان يقصد تغيير وعينا نحن الفلسطينيين، فما كان له بهذا التصريح سوى التجديد على استراتيجية وجدت مع وجود الاحتلال، بأن تغيير الوعي يحدث الخضوع والاستسلام، وهي استراتيجية مقتبسة من الاحتلال البريطاني لأسكتلندا، غير أن الشعب الفلسطيني رغم كل ما حدث وسيحدث لم ولن يستسلم وعيه.
ان دولة الاحتلال العنصرية لن تقدم شيئا لما يسمى حل الصراع، وان حل الدولتين خارج اطار القبول أو الوعي لدي هذا الكيان، ولهذا السبب تعمل على تأجيل الحل والمراهنة على الوقت للهروب من استحقاق الاجابة على سؤال الاحتلال الى أين..؟؟ مع خلق أمر واقع بفعل السياسات الاستيطانية، وهذا ما سيدفع الحراك السياسي الفلسطيني للدخول في عمق أشد من الاشتباك مع الاحتلال الاستيطاني، فلم تعد الرؤية الاسرائيلية تشمل أي شكل للحل على أساس الدولتين اذا لا وجود في العقلية الاستيطانية سوى لدولة ارهاب واحدة نقيضها المطلق دولة فلسطينية أمنة.