الشاعر الذي قتلته وردة- عدلي صادق
كان النمساوي راينر ماريا ريلكة (1957 - 1926) وهو أحد أهم وأجمل شعراء الألمانية؛ قد سافر في خريف 1910 الى شمالي إفريقيا العربي الإسلامي، لكي يستشفي من اضطراب نفسي أصابه بما سمّاه "احتباس الشعر". زار الجزائر وتونس ومصر، وكتب من هناك رسائل تُعد بعضاً من أجود آثاره. رأى في تونس، مجتمعاً وديعاً آمناً هانئاً، اتسمت حياته بما هو ملغز ومدهش ويؤكد على صواب وجهة سفر الشاعر، وقراره أن يسجل "قفزة روحية نحو المجهول الفاتن، أو الى الشرق، حيث ينبغي توسيع الحُلم"!
قبلها، أضجرته صعوبة التواصل في عصر المروق والعزلة والقلق العميق. أخذ يفتش عن مشهد رائق. وبالفعل فتنته دكاكين مدينة القيروان ذات "المنصّات الصغيرة الممتلئة بأشياء ملونة، والأقمشة الوافرة المدهشة، والذهب يلمع جذاباً كأن المرء سوف يتلقاه هدية غداً". ففي كل دكان "يُضاء مصباح واحد ليلاً، يتمايل مهتاجاً بحضور كل شيء يقع عليه الضوء" عندئذٍ يتبدى الشرق ومناخات "ألف ليلة وليلة" ويصبح عيد الميلاد غير عصي على المخيلة في نهاية الأمر".
في السياق، حدث أمر مثير، كأنما هو رسالة للشاعر الغريب، تقول إن المشهد الرائق حِكرٌ لأصحابه. يصف راينر ريلكه نفسه، هذا الأمر المثير قائلاً:"في القيروان، الى الجنوب من تونس، قفز عليّ كلب قبيلي أصفر، وتلك هي المرة الأولى في حياتي كلها، التي أعلم فيها أن سلوك الكلاب غير منزوع المغزى والدلالة. الأمر الذي جعلني أعترف أن الكلب كان على حق، إذ عبّر ببساطة، وعلى طريقته، أنني كنت في الموقع الخطأ في كل شيء"!
كان في أعماقه مسكوناً بمشاعر استعلائية، وينظر الى الشرق الذي أراد الاستشفاء فيه وبه، من خلال تنميطات "ألف ليلة وليلة" والصور الاستشراقية عن بلادنا، حيث رٌسمت أشكال الحمّالين والشحاذين، والنساء الشبقات، في محاذاة باعة السجاد والسقائين، وسائر اللقطات التي أرادت رسم حياة مجتمع غارق في الماضي وحده، ومقيم - حسب قوله - في كنف الأموات والأوابد الصامتة، حيث الأمس هو اليوم، والمدينة مملكة محتلة من موتاها، والنبي فيها كأنه كان هنا بالأمس، والمدينة ملكه"!
في حياة الإنسان، كما في حياة الأمة، لا بد من كلب يقفز ويعض، لكي ينتزع اعتراف الإنسان أو اعتراف الأمة، أنه كان في الموقع الخطأ في كل شيء!
في صباح خريفي، في العام 1926 كان ريلكه يلهو في حديقه منزله السويسري. أراد أن يقطف وردة، مثلما يفعل كل صباح، فجرحه شوك الورد وأدماه. لم يكترث لحظتئذٍ، لكنه سرعان ما اكتشف أن فيه داء ابيضاض الدم (اللوكيميا). استسلم للعلة، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى لفظ أنفاسه. قال فيه مؤرخو الأدب كلاماً كثيراً، ووصفوه بــ "الشاعر الذي قتلته وردة"!
adlishaban@hotmail.com