ليلة اشتعال الروح- فتحي البس
مساء الاحد،16/11/2014،عشت مع جمهور غفير ضاقت به قاعة قصر الثقافة في رام الله من بينهم مسؤولون ومثقفون وغالبيتهم مواطنون محبون للحياة, قرابة ساعتين حلقت بنا مجموعة نوى للموسيقى العربية بقيادة الفنان باسل زايد الى سماء الفرح, موسيقى وغناء اشتعلت بهما الروح, تصاحبهما معرفة او على الاقل تحريض على المعرفة،وبهذا تكتمل دائرة الحياة الجميلة الراقية :المتعة والمعرفة اللتان تتأكد بهما انسانية الانسان المتحضر.
تحققت المتعة بالسماع والمشاهدة، سبعة وعشرون عازفا ومغنيا اضافة الى ضيفي شرف، تكونت منهم المجموعة وتوزعوا من حيث مسقط الراس او مكان الاقامة على مساحة فلسطين كلها, من اعالي الجليل الى اقصى جنوب الوطن في غزة، يؤدي كل منهم دورهم برشاقة واتقان ونظام والتزام متناغم دقيق بين المجموع،عزفا وغناء وتوقيتا...انه ما يطلق عليه الهارموني, اي الانسجام التام بعمل جماعي،لا ينجح فيه الفرد ويتميز الا ضمن الكل المشكل لهذه المجموعة المنبثقة عن المؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية بقيادة نادر جلال، الذي امضى قرابة عشر سنوات مديرا عاما للفنون في وزارة الثقافة دون ان يمكنه موقعه المقيّد باستراتيجية الوزارة وميزانياتها الضئيلة من تنفيذ رؤيته التي يحاولها الان من خلال "نوى" بجهد بحثي مضن، وبميزانية اكاد اقول انها لا تذكر بالقياس الى ما نفذته نوى من مشاريع رائدة، من تدريب على العزف الشرقي بالاته المتنوعة، الى جمع الارشيف والصور المبعثرة في الشتات والوطن، وتبويبه، والتحضير من مخرجاته لفعاليات تحقق جوهر الهدف للبرهان ليس كما السائد بتوثيق روايتنا الشفوية لتاريخنا،وانما باخراج كنوزنا الثقافية الموثقة من اقبيتها ومدافنها وميادين ضياعها او اخفائها او تجهيلنا بها، عن قصد او اهمال في احسن الاحوال،لتثبت نوى بهذا الجهد, ان فلسطين قبل النكبة، وصلت الى اعلى مراتب التحضر الثقافي الاجتماعي, فالغناء والموسيقى الراقيان يشيران الى شعب محب للحياة، يتمتع الى جانب انجازه في كافة ميادين الانتاج بسمو الحياة الروحية.
امّا المعرفة فقد تحققت حيث جاءت ليلة الاحد،ليلة اشتعال الروح, بعد ندوة نظمتها نوى منذ شهر تقريبا بعنوان "اصواتنا المفقودة" خصصت للاضاءة على دور المخرج الفلسطيني السينمائي الاداري الفذ صبري الشريف،وبعد قرابة سنتين على تنفيذ الجزء الاول من مشروعها المهم جدا "هنا القدس" الذي يتمثل "في التركيز على نبش الملف الموسيقي الفلسطيني قبل عام 1948 وتقصي اثره في مختلف مناطق الشتات" كما ورد في تعريف "نوى" بمشروعها حيث وثقت بحفلاتها واسطواناتها اطلاق الالبوم الاول المخصص للموسيقار الفلسطيني روحي الخماش.
خصصت نوى ليلة الاحد لعميد المطربين "محمد غازي" المولود عام 1922 في قرية بيت دجن،قضاء يافا, الذي كان له حضور مميز على الساحة الفنية الفلسطينية كمطرب وموسيقي رفيع،عمل في محطة هنا القدس ومحطة الشرق الادنى،فهاجر مجبرا بعد النكبة الى بيروت ليستكمل مشواره هناك مطربا وملحنا واستاذا للغناء العربي،استفاد من قدراته ودروسه عمالقة ذاع صيتهم من امثال فيروز.
هذا الدور الذي تحمله "نوى" على اكتاف متطوعين, تعجز عن القيام به مؤسسات دولة متخصصة،وربما معاهد ممولة الى حد التخمة،سلاح نوى ومتطوعيها الارادة والتضحية والايمان بالدور،فقد واكبت عن كثب السفر المتواصل والبحث والتنقيب المرهق الذي قام به نادر جلال، يسال ويتابع اثر انسان عرف محمد غازي،يصل الليل بالنهار يصور الوثائق ويجري المقابلات وكثيرا ما خذله بعض من امتلك ارشيفا او معلومات،دون ان يثنيه ذلك عن الاستمرار حتى لو عاود المحاولة في عدة سفرات متحملا مواعيد يتحقق بعضها بعد عناء.هذه المثابرة اثمرت ليالي الفرح التي اشعلتها في حياتنا نوى بمشاريعها المنجزة وتلك التي تنتظر.
تستحق "نوى" ونادر جلال التحية والاحترام والدعم والمساندة ماديا ومعنويا،وتلك المؤسسات القادرة والتي تتقاعس عن دعم واحدة من اهم جمعياتنا الثقافية غير الربحية،ستوصم بالجهل وادعاء الدور والبحث فقط عن نشاطات لا تعدو ان تكون فقاعات، تنعكس في فلاشات المصورين واقلام المتربحين والمطبلين.
أولى هذه المؤسسات التي نتوقع منها احتضان نوى،وزارة الثقافة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني الجادة والوطنية.
ما تقوم به نوى الى جانب المؤسسات الثقافية الاخرى، هو فعل مقاومة،مؤثر ومنتج.
و حياتنا بالثقافة المتنوعة مقاومة. شكرا نوى وشكرا من القلب يا نادر جلال وزملاءه.
fathibiss@yahoo.com