استسقاء الهَوَس بالجُنونْ- آصف قزموز
لم يكن الفنان السوري دريد لحام في مسرحيته الكوميدية "كاسك يا وطن"، يعلم أن لحظة الحقيقة المرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني مع الاحتلال، والشعوب العربية مع الاستعمار، ستتجلى اليوم بأبشع صورها وتجلياتها الخارجة عن حدود ومكارم القوانين الوضعية والسماوية والأخلاقية. حيث ظهر غوار جالساً على المقهى بعد خروجه من السجن منفوخ الرجلينِ داميها، من آثار الضرب والتعذيب من قبل المحققين، في إشارة للظلم والاستبداد واللاديمقراطية، وفجأة يمر في الشارع من أمام المقهى أحد الفقراء المتسولين، فينهره غوار قائلاً: وْلا ليش دأرت فيِّي؟ فيجيبه المتسول متوسلاً: أنا ما دأرتك، كيف بدي أدُؤرك وأنا ماشي في الشارع وانتي قاعد عالأهْوِه ؟! ورغم ذلك ينهال غوار على الرجل ضرباً وركلاً.
أحد رجال الحارة: يا غوار اختصر الشر الزلمة ما دأر فيك لأنوا مر بعيد عنك.
غوار: هلأ لو كنت أنا قاعد مكان ما مَرَق مِش كان دأرني؟
الرجل : مزبوط
غوار : (ينهال من جديد على الرجل الفقير ضرباً وركلاً) قائلاً: ما فَشَر ياللي بدو يدأُرني وْلاهْ.
يعني المسألة اتلِكِّك وْتَبَلِّي وْفَشِّت خُلُقْ.
هكذا أصبح حالنا مع الاحتلال وحكومة نتنياهو، حيث لا يكاد يخلو يوم من شهيد أو شهيدين برصاص جندي احتلالي أو مستوطن متطرف، بدعوى باطلة أن الفلسطيني المغدور كان يحاول الاعتداء على الجندي أو ينوي طعنه، طبعاً غالباً ما يكون الضحية لا علاقة له بالتهمة، وبريء براءة الشحاد من دأر غوار.
كيف لا، ونحن نشاهد قرارات وتصريحات وتعليمات الحكومة الاسرائيلية تطلق العنان للجنود والمستوطنين وتقدم لهم التسهيلات في استباحة الدم الفلسطيني بغير حساب، فيستمر مسلسل استسقاء الدم بالدم الذي تستوطنه هذه الحكومة، حيث يسمح لهم بإطلاق النار على الفلسطينيين في حال شعورهم بأي خطر ؟! يا سلام عالعدالة وديمقراطية الاحتلال، فمن سيحدد معايير وحدود وماهية هذا الخطر المزعوم لهؤلاء الجنود والمستوطنين المدججين بالحقد الأزلي والسلاح المباح، خصوصاً ونحن نشهد قرار منح تسهيلات ترخيص حمل السلاح للمستوطنين بدعوى حماية أنفسهم من الفلسطينيين الذين يعتقلون إذا وجد بحوزتهم سكين. إذن هم يعرون المواطن الفلسطيني تحت سكين وسلاح المستوطنين والجنود، ويسنون لهم القوانين اللازمة لتبرئتهم وحبس الضحية !! لذا ستستمر هذه الملهاة الدموية وهم يشرعون لجنودهم ومستوطنيهم أسباباً للقتل ومبررات للبراءة. لكنهم ينسون على ما يبدو أن هذه التجاوزات وهذه القوانين ذات الطبيعة والصيغ القراقوشية المُدَعْوَشَة، التي يبرئون بها أنفسهم مقدماً من دمنا المغدور، ستضاف على حسابهم الاحتلالي المفتوح كجرائم حرب متواصلة هي الأخرى.
ما أكثر المتعاكسات حين نعدها في حياتنا المنتهكة على رؤوس الأشهاد من قبل هذا الاحتلال البغيض، حين يتخذون الإجرءات والقوانين التي تبرئ قاتلنا وتدين ضحايانا، تمنح مستوطنيهم وتمنع مواطنينا، تهوِّد ذاتهم المفتعلة بكل وسيلة، وتبدد ذاتنا الأصيلة.
لكن ما أود قوله أيضاً، أن هذا الولوغ الاسرائيلي الموغل بدمنا، بكامل جرائمه وانتهاكاته الطاغية والعارية ملط أمام العالم أجمع، يحتم علينا أن نستمر بالالتزام بكامل واجباتنا وتعهداتنا على أكمل وجه دون تردد ولا تراجع، ونتخذ كافة الإجراءات المانعة لأية تصرفات وردود أفعال من جانبنا، جمعية كانت أو فردية وتحت طائلة المسؤولية الوطنية والقانونية في هذا الظرف الدقيق من الصراع الغير متكافئ مع الاحتلال، وذلك لتمكيننا من عبور بحر الظلمات معهم بسلام وبأقل ما يمكن من الخسائر نحو بر الأمان، بالحفاظ على الأجواء الإيجابية والتعاطف الدولي معنا وتفويت الفرصة على خصومنا ومبغضينا من إفساد هذا الجو الدولي الداعم غير المسبوق لشعبنا، آخذين بعين الاعتبار أنهم يسعون ويتمنون جرنا لردود أفعال من هذا القبيل ووضعنا في المربع السلبي الذي استوطناه على طول المدى وعمر الصراع، فاستثمروه لصالحهم أبشع استثمار، وأوسعونا قتلاً ونهباً وتدميرا بكُلفٍ من حسابنا وكيسنا الوطني وحقوقنا التاريخية، ولا جناح عليهم ولا هم يحزنون. يجب أن نخرج من جلباب الثأرية الشخصية الباهظة، لحساب مراكمة الحقوق والتأييد الدولي المتنامي، فلا نكون كمن يقتل رجلاً بذبابة فنظلم أنفسنا ونمكنهم من دمنا فينوء كاهلنا بظلم فوق ظلم، وهو المطلوب بالنسبة للخصوم وللمبغضين والمعترضين ومن ضلوا سواء السبيل لحساباتهم الذاتية الضيقة ومن الحسابات الكلية لشعبنا.
الرئيس أبو مازن يخوض اليوم غمار معركة سياسية وديبلوماسية قاسية ومحفوفة بمخاطر سياسية، هي معركة الدولة الفلسطينية ومعركة كل الشعب الفلسطيني، وبالتالي لا مكان لأية اختلافات أو تخالفات مزايدة أو مناقِصه، أو فتح أية معارك جانبية داخلية أو غير داخلية، باستثناء معركة الدولة والكل يرى رئيس الوزراء نتنياهو يفقد صوابه يقتل ويهدم ويتوعد، وصولاً لطرد الوزيرين ليفني ولابيد من الحكومة لانتقادهما سياسته، ولا أدري إن كان سيطال بجنونه هذا طرد رئيس الدولة الذي انتقد قراره بيهودية الدولة، إنها حالة جنون سياسي رسمي، واختلال في توازنه التنظيمي والسياسي والديبلوماسي. نعم هذا هو استسقاء الهَوَس بالجنون ومن ظَنوا بالله الظنون.
الكل مطالب اليوم بالالتفاف والتوحد خلف الرئيس أبو مازن ودعمه، وشلت الأيدي التي ستنال من مصالح شعبنا لحساباتها الفردية والتنظيمية، وعلى الجميع اختصار خلافاتهم، في هذه اللحظة السياسية بالذات، وكفى إيثاراً للذات الفردية على ومن حساب ذاتنا الوطنية. وتذكروا يا سادة أن القضية ليست قضية فردية بل قضية وطن وشعب مُضَيَّع ائتمنكم على مصيره ومستقبله أجيال ورى أجيال، كونوا على قدر المسؤولية وأهلاً لها، فشعبنا يستحق منكم ما هو أفضل.
نعم أعود وأقول أن الطريق الآمن المتبقي لنا هو الالتفاف حول البرنامج السياسي الوطني ودعم السياسة المتوازنة التي يلتزم بها ويخوض غمارها الرئيس محمود عباس "أبو مازن"، رغم وعورتها وتحدياتها وشباكها وأشواكها ومخاطرها الجسيمة، ناهيك أننا لم نعد نملك أصلاً الحد الأدنى من اللياقة والمقومات اللازمة لولوج أية خياراتٍ أُخَر. يا جماعة من شان ألله عدولنا هالمعركة على خير، يعني في السابق كنا نلوم حماس على اختيار التوقيتات القاتلة لنا عند ممارستها لعمليات عسكرية تلحق بالسياسة الفلسطينية والمشروع الوطني أفدح الأضرار، واليوم مش عارفين نلوم مين وِلاَّ مين، اتقوا ألله يا بشر، قولوا فيَّ ما شئتم، فهذا هو رأيي بالمفيد المختصر.
asefqazmouz@gmail.com