غيبوبة التطرف وجنونه - عدلي صادق
منفذو الهجمات الأخيرة في فرنسا، معزولون قطعاً عن كل فضاءات الواقع: المشهد الثقافي والسياسي الفرنسي، والفضاء العربي الإسلامي، حيث تتناسل الكوارث، ويتغالظ المروق على الدين بأيدي رافعي راياته إفكاً، وداخل معسكر «السلفية الجهادية» نفسه، والفضاء الثالث هو شرع الله وشروحات ألمع فقهائه، كإبن تيمية الذي شدد على أن دفع المفسدة بطريقة ينجم عنها ضرر أعظم منها، فإن درءها حرام!
على الأرجح، لم يكن المهاجمون يعلمون أن حرباً اعلامية اندلعت في الآونة الأخيرة، ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا، أشعلها عنصريون، وكان من واجب المسلمين صحيحي الإيمان، تهدئتها بدل أن ينبري معتوهون من بينهم الى اقتحام مقر مجلة يسارية نقدية ساخرة، وتنفيذ جريمة مروّعة انتظرها العنصريون لتوظيفها في سياق سعيهم الى مقاصدهم. وكان منحى المزاعم التي روج لها العنصريون، أن الإسلام هو ثقافة ومنظومة تربوية حاضنة للإرهاب، قبل أن يكون ديانة، وأن المسلم - أي مسلم - هو مشروع إرهابي بالمحصلة. وقد استمدت هذه المزاعم زخمها، من عمل روائي لا علاقة له بالواقع، انتجته مخيلة قاص يُدعى ميشيل ويلبيك، جاء فيه إن فرنسا سوف تجد نفسها في العام 2022 مضطرة لانتخاب رئيس مسلم «معتدل» سيكون بالنسبة للفرنسيين المسيحيين بمثابة أهون الشرور، واسمه - للمفارقة - محمد عباس. لكن عباس هذا، في الرواية، سيجعل جامعة السوربون الفرنسية العريقة، شبيهة بجامعة «الإيمان» لصاحبها الشيخ عبد المجيد الزنداني في اليمن، وأن هذا الرئيس سيمنع النساء من ممارسة الأعمال خارج المنزل، حسب توصية حسن البنا مؤسس «الإخوان» في إحدى رسائله المبكرة، التي بشرت بمرحلة تغليف الدين حزبياً وتصغير العقول!
في الخط الدرامي للرواية، يتمزق الفرنسيون بين خيارين شيطانيين، ثم يرسو خيارهم على الرئيس عباس المعتدل، لأن بديله سيكون «مارين لوبين» المتطرف اليميني الفاشي، زعيم «الجبهة الوطنية»!
والطريف، أن الرواية وهي تجترح افضلية للرئيس المسلم، على الرئيس اليميني المسيحي المتطرف، الذي يُفترض أنه سيعمل على تحجيب فرنسا؛ لم تكن أقل سوءاً من محمولات مجلة يسارية لها رأيها في الأديان قاطبةً، كلما تعلق الأمر بجموح ناشطيها الحزبيين الى الحكم والسياسة. فـ «شارلي إيبدو» بدأت واستمرت برسوم ضد التطرف في جميع الديانات، وكان متطرفو المسلمين من ضمن المستهدفين من متطرفي الديانات الأخرى. لكنها، مع تصاعد عمليات التفجير هنا وهناك، ازدادت رسوماتها سفاهة فشملت النبي محمد عليه السلام. وكانت ردود أفعالها على شكاوى المسلمين في المحاكم تصعيدية. على الرغم من ذلك، وجب على جماعات الغلو أن تتحاشى درء المفسدة بطريقة ينجم عنها ضرر أكبر منها. وهذا ما فعله اليهود مع المجلة وما فعلته الكنيسة الكاثوليكية.
وكان مقترفو الجريمة، منفصلين كذلك عن فضاء «السلفية الجهادية» نفسه، الذي يُنتج الاحتراب وإزهاق الأرواح، حتى داخل فضائه الذي يتلطى بالتقوى وشرع الله. يكفينا أن نقرأ، ما تسرب قبل أيام، عن خيبة أمل السلفيين الجهاديين الأردنييين، الذين غدر بهم الشيخ «أبو جليبيب» القائد الميداني في منطقة حوران السورية، فقتل بالتعذيب البطيء شيخهم الأردني أحمد حربي العبيدي، الملقب «أبو سيف الأردني». والتهمة هي الاشتباه بمبايعة القتيل لأبي بكر البغدادي. فقد أهدر «أبو جليبيب» (لاحظوا الأسماء كيف تتردى. فهذا هو تصغير جلباب) دم «العبيدي» وتلذذ بتعذيبه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. ومن ذا الذي يقنع الفرنسيين، أن الجنون يطالنا قبل أن يطالهم، وأن مصير المسلم السلفي الجهادي، كان وسيكون أسوأ من مصير الضحايا الفرنسيين، إذ لم يسبق موت هؤلاء تعذيب.
لا بد من وحدة الموقف الدولي ضد الدواعش من كل دين، أي ضد أبو جليبيب المسلم وأبو جليبيب اليهودي المتطرف والمستوطن وأبو جليبيب المسيحي المنحاز لأبي جليبيب الثاني. عندئذٍ سيطمئن الفرنسيون الى أن رئيسهم في العام 2022 سيكون كاثوليكياً!