ساعة حائط ... ونشرة أخبار... وحياة لا تأتي - دنيا الامل اسماعيل
يمضي النهار، مشحوناً بالقلق والخيبات وروائح الموت والجنازات، تتوقف ساعات العمل، سوى عن ترقب المشهد كاملاً من خرابه وجرحه.
الشوارع ترفع الأعلام السوداء والحمراء والخضراء، السيارات ترش الحزن ببعض التحدّي، عبر مكبرات الصوت وأغاني تدفع بالحياة على حواجز تخلو من الحياة.
خيمة هنا وخيمة هناك، وشاشات التلفاز لا تكف عن الركض خلف آلامنا، لا تزهق سوى من صمتٍ، بات عزيز المنال، البلاد كلها واقفة على حدٍّ دمعها، لا سبيل لفرحٍ صغير، ينعش قلب الحياة في هذه المدينة الميتة، فقط تحيا حياة خاصة سوداوية، على شاشات تلفاز تربطنا بها علاقة الخبر العاجل أو الإهمال المستحسن، وأنتِ تخوضين في متاهة ما يجري، لا تبدأين شيئاً إلاّ وينتهي بمرارة الوعي لواقعٍ مرٍ وأليم، يسرق من روحنا فرحة الحياة.
أيام تتوالى، مملوءة بالأخبار والتحقيقات والكتابات المرّة عن أحزان لا تنتهي، لأسرٍ تتناسل أوجاعها، كفريضةٍ مدرسية لا ينفع معها الهرب، تتوقف الحياة – على قلتها - . اضرابات تمنع أن تحلم بيومٍ عادي، مليء بالأمور الصغيرة، من شدّة بساطتها، أصبحت صعبة المنال.
تفكرين بالبحر، يأخذك الحنين لصباحات بحرية، مع زوج محب، وفنجان قهوة مشحون بالمحبة في حضرة طفلة، "ملفوفة" بغيابها المشروع و الجميل عن إلى أي مكان ستنتهي.
هل باستطاعة هذا القلم أن يحصد حصيلة انتفاضته، أن يعد الكلمات والقصائد والتحقيقات عن جرحٍ يزداد نزفاً يوماً بعد آخر. هل باستطاعة قلم صغير وبائس ووحيد أن يكون شاهداً على مجازر بشرية، تتجاوز قيمة الخبر العاجل والخبر الأول، إلى سيرة شعب، تتراكم دماً وفجيعة، يوماً بعد آخر، بل ساعة بعد أخرى.
كم مرةٍ أخذتك الأسئلة إلى نهاياتها، فأفقتِ على فقدانٍ ودهشةٍ سوداء، وبكاء لا يسمعه سوى صدى أنفاسك الوحيدة.
وكم مرة ارتديتِ قناعاً لتخفي إحساسك المر بموتك المتحرك، وأنتِ تنشدين أمك على سماعة الهاتف وهي تلهث وراء أن تطمئنينها على سلامتك بعد كل قصفٍ تنقله شاشة لا تعرف من إنسانيتك سوى مشهد موتها، فتلعنين الاحتلال والأسلاك الشائكة، واشتراطات سفر تصدك عن حضن أمك وعينيها الكليلتين إلى أجل غير مسمى، لا يحله سوى الموت.
وتتساءلين غالباً، إلى أي حدٍّ يمكنك أن تعتادي الموت، وأن تضيفيه إلى أسرتك كفرد منها، دائم الحضور/ دائم الغياب، فيزرع أشواكه في الروح، ويحوّل البيت إلى مجرد مأوى مؤقت، قد تنتهي علاقتك به في لحظة. ليصبح شهيداً منتظراً ومتوقعاً، وأصحابه ثكلى يتيهون بين تصريحاتٍ ووعود وانتظارات وأمنيات تنتهي دائماً إلى انكسار لا يدركه سوى الثكالى.
أكتب، أشحن الورق بجروحي، أجعله يتألم مثلي، أسفح دمي على بياضه المهادن، أحاول أن أتجرد من خنوعي ومن خوفي على العمر والأبناء والمشاريع المؤجلة دوماً.
أكتب كتابة تضنّ بالعرفان في زمن عولمة الشاشات، وسباق الأرقام البشرية... أكتب كتابة ألم موبوء بعجزه عن تجاوز الموت والفقدان والحسرات التي تكبر في قلوبٍ أصبحت وحيدة إلاّ من الجرح والذكريات المرّة.
لافتات وبوسترات، حوائط كالجرائد، منتهكة بكلام عابر، وحسابات لا تدل على وطن كالوطن، وأغنيات من زمن الثورة، تسدٌّ الروح عن فضائها، تحصركِ في دائرة الموت، والمكان المفتوح على خرابه وفوضاه. أشياء كثيرة تعج بها غزة، كثيرة كثرة الرمال والبحر وأزرق السماء، لكنها خالية من حميمية الأشياء والحياة، من أن نحب ونكره ونتألم بشكلٍ عادي، خارج الأسطورة، وخارج نشرات الأخبار، وخارج التاريخ الواحدّي... أحلم بيوم عادي لي ولبناتي الثلاثة، اللواتي يكبرنّ مع الدم والخوف والأسطورة، فيكبر خوفي عليهنّ، فأصلّي أكثر ليومٍ أقل سوءاً لهنّ، إذ لم أستطع أن أحلم بيومٍ أجمل، فالقياس على الجمال مفتقد وجريمة في أرض الرباط.
آآه ... تختلط الأمور، وتشيع الشبهات، فلا ندرك الوطن من غيره، أحياءنا من أمواتنا، مناضلينا من سماسرتنا، فلا يتبقى أمامي سوى الانزواء خلف أمنيات وإحباطٍ، معجونين بالألم، ينامان على غدٍ يشبه إنسانيتنا، و يشبه ما ليس فينا. لكنني في كل مرة، أرتدّ عن أحلامي وعن انزوائي، فتناديني مسيرة هنا، او اعتصام هناك، أو أن أبدأ يومي مع مذكرة تواقيع، ضد الخراب والألم والفوضى والموت المجانيّ، أو جولة نسوية إلى مناطق منكوبة، شمالاً وجنوباً، فتعلق ثانية وثالثة ولمراتٍ لا تنتهي أسئلة الروح بروحانية المشهد المتكرر على اختلاف المسافات والأماكن والبشر، سوى أنهم فلسطينيون، فأموت أكثر من خراب الروح، وفساد الألم، حين تدخل المتاجرة إلى قائمة الأثاث المنتهك والخسائر الوهمية، فأحزن بصمتٍ ناقصٍ من تمرده.
أجول ببصري على البيوت الشهيدة، وبيوت صدرت الشهيدات والشهداء، فأعجب من صمود الأخيرة، وألمها الشامخ، فأكتب كلاماً لا يشبه تمردي، وكأنني أصلّي مجدداً في محراب الحزن والفقدان، والألم المسكوت عنه إجباراً أو اختياراً، فأظل مشدوهة أمام الجمال الوحيد، وقلبي يسجل تذكارات العمر من زوجات الشهداء وأمهاتهنّ؛ فأستشعر قصر قامتي أمام نفوسً تهاوت من شدة الشموخ. ماذا تقول أولئك النساء في وحدتهنّ على مخداتٍ مملؤة بالبكاء والوجع الانكسار. ماذا يقول الغياب في حضرة الليل والأعياد والتذكارات. أية امرأة تجاوزت ما هو مطلوب منها كزوجة شهيد أو أم شهيد، لتصرخ بفقدانها، وحسراتها الصغيرة اليومية، وهي تنفض الثياب، وتكنس الذكريات من أمكنة أصبحت تعجّ بالمرارة.
لكن حين يتم اختزال الحياة إلى شاشة ومراسلين، نحاصر جميعاً بانتهاك مدفوع الثمن، لخصوصية أحزاننا، وانتصاراتنا الصغيرة من أجل حياةٍ أقل إيلاماً، وعدوٍ موبوءٍ بشراهة الموت والتخريب، مهووس بنفي ذاكرتك وذكرياتك.
ليس مطلوباً منك سوى أن تتمني السلامة، و أن تحمدي الله عليها، على هذا النفس القصير، الذي يتردد خيفةً في صدرك، وكأنه ذنب سيأتي يومُ تجري محاكمته سريعاً، سرعة تصريحات التهديد والوعيد، سرعة طائرة ترش الذعر والموت على وجوه الصغار والكبار.
ليس أمامك من خيار فقاتلي، كما لم يقاتل الأولون، وكما لن يصبر الآخرون، قاتلي ضد صمتك، وضد عنفوانك، ضد هذا الحزن، والإحساس المميت بفجيعة لا حل لها.
هل بإمكان الكلمات أن تنوب عن فجيعتنا، وفقدنا وخسارتنا وأحلامنا، التي تتقلص ساعة بعد أخرى، ليتبقى منها فقط أشباه ذكرى، وأشباه أحلام، وأشباه بشر.
ما جريمتي أنا المقصيّة، المنسيّة من خطط هذا العالم سوى أن أصبح خبراً عاجلاً، أو بوستراً على حائط، أعزل، موبوء بأخبار الشهداء وصراعات الفصائل وأوهام الحالمين أمثالي.
ما جريمتي أنا المحمومة بالكتابة حدّ الحياة، أن أتحول إلى ساعة انتظار معلقة على حائط مسكون بهواجس الموت ونشرات الأخبار ولعنات الأقدار.
يا رب... دلني على حزنٍ يشفع لي عندك تقصيري في أن أحزن كما يجب، و أن أتألم كما يجب لإنسانيةِ فلسطينيتي. يارب... دلني على كتابة تدّل على دمي، على عينين لا تشبع وجعي وانتظاري وأمنياتي، بوطنٍ يسكن القلب والعينين، يسمح بجرأة الشوق والحب والحياة.
اتركوا لي رفيف قلبي، وجنون روحي، ومساحة أحلم فيها بالغد، فهل هذا كثير .