الاستراتيجية المطلوبة- سمير االحباشنة*
انّ التطلع الى الأمام ومحاولة اجلاء الرؤيا المستقبلية للواقع الفلسطيني وتتبّع السبل المناسبة وصولا الى الهدف الأسمى المتمثّل بقيام الدولة الفلسطينية ناجزة السيادة، انما يقتضي الانطلاق مما هو قائم والبناء عليه، وقياس مدى صلابة التربة التي يقف عليها المشروع الفلسطيني، بحيث نرصد بموضوعية ما انجزه الشعب الفلسطيني عبر مسيرته الكفاحية الممتدة عبر عقود...، وتقييم ماهية هذا الانجاز، وكم يشغل من حجم الطموح الكلي، كمقدمة للولوج الى التعديلات اللازمة لتصويب المسيرة / السياسية والميدانية وصولا الى الهدف المنشود.
أسوق هذه المقدمة كرد على أصحاب منطق التقييمات المطلقة الذين يعالجون الأمور على قاعدة الأبيض والأسود! ذلك أن السجّل الكفاحي المشروع للشعوب الطامحة للتحرر والاستقلال يحتوي بالعادة على مراحل مد وجزر بين الانتصارات والاخفاقات، وانّ الشعوب الحية والقيادات الواعية هي القادرة على تشخيص نتاجات كل مرحلة وبالتالي تعزيز النجاح وتجنب الاخفاق.
وعليه فان تلطيخ المسيرة الفلسطينية كلها بالسّواد هو منطق عدمي ولا يخدم الا الاعداء. وانّ نقد مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية لا بد أن يكون من خندق الالتزام بالقضية الفلسطينية ولابدّ أن يحمل النقد بدائل لما هو قائم والا يصبح ضربا من التشويه والثرثرة.. لأن هذا يعزز المسيرة بل يحبطها..
ولأن دعوتكم الكريمة قد حدّدت العديد من المحاور، فانني سأكتفي بتناول مسائل محدّدة أراها من الأهمية في بلورة الاستراتيجية المطلوبة نحو انجاز الاستقلال الوطني والسيادة.
السلطة الفلسطينية.. النجاح والاخفاق
وبناء على ذلك، وبدءا بالحديث عن الانجاز فانّ قيام السلطة الوطنية كان انجازا كبيرا لا يُستهان به وشكّل خطوة نوعية على طريق التحرر وقيام الدولة، فالسلطة الوطنية اتاحت عمليا انتقال الكفاح الفلسطيني من خارج فلسطين الى داخلها، وهو الهدف الذي طالما ألحّ عليه المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر باعتبار ذلك شرطا استراتيجيا لا بد منه، ذلك أنّ القضية الفلسطينية لن تأخذ مداها ولن يتحول الكفاح الفلسطيني الى حقيقة واقعية مؤثرة الا بانتقاله الى الداخل على أرض فلسطين. ونعلم أنه بموجب قيام السلطة الوطنية أتيحت العودة الى حوالي عشرات الآلاف، وجُلّهم قيادات ورجال منخرطون في العملية الكفاحية، الأمر الذي أعطى زخما اضافيا للفعل الفلسطيني في الداخل.
والسلطة اتاحت البدء ببناء المؤسسات الفلسطينية كمقدمة لارساء دعائم الوجود المادي للدولة العتيدة المنتظرة، وبتقديري ان الانتقال الى الداخل وبناء مؤسسات السلطة الفلسطينية كانت عوامل دفع ايجابي، أوجدت أمرا واقعا حفّز أغلب دول العالم لأن تعترف بالكيانية والدولة الفلسطينية، وتدحض مقولة الصهيونية التقليدية.. بأنّ فلسطين أرض بلا شعب.
لقد أُتيح لي زيارة فلسطين لمرتين في العامين الآخرين، بحيث لمست ذلك الانجاز على أرض الواقع، فالشعب الفلسطيني وبموجب قيام السلطة الوطنية تمكّن عمليا من امتلاك مؤسسات دولة، مدنية وتعليمية وأمنية.. الخ/ الأمر الذي رفع من منسوب الاعتداد الوطني لدى الشعب الفلسطيني وعزز الأمل بالنفوس بأنّ ازالة الاحتلال وقيام الدولة لهو أمر ممكن. وكان لذلك تجلياته في تلك المقاومة الشعبية الفريدة عنوانها التشبّث بالارض وطي صفحات النزوح بلا عودة.. خصوصا مع قيام المشاريع الاقتصادية والخدمية وحفز الاستثمار التي خفّفت من حاجة الشعب الفلسطيني وشبابه للعمل خارج فلسطين او اللجوء الى العمل في مشاريع الاحتلال الاقتصادية. وحتى لا يكون حديثنا نظريا فلا بد ان نتذكّر أنّ التشبث الفلسطيني بالارض قد تجّلى ابّان الحروب الاسرائيلية على قطاع غزة حين شاهدنا ازدحام البوابات بين مصر وقطاع غزة بآلاف الغزيين الفلسطينيين الذين ينتظرون الدخول الى غزة لا الى الخروج منها.. وكلنا نتذكر الصمود الاسطوري الفلسطيني في مخيم جنين في وجه العدوان الاسرائيلي الذي لم ينجح حتى باخراج الفلسطينيين من المخيم الى مدينة جنين !
الّا أنّ السلطة الوطنية -رغم ايجابياتها- كانت وقعت في مطّبات، كان -وما زال- يمكن تداركها، فقد أخفقت الفصائل المسلحة والتنظيمات السياسية من تغليب التناقض الرئيس على التناقضات الثانوية ولو الى حين... ولم تستطع تحقيق مقولة «الاختلاف في اطار الوحدة» كسمة رئيسة لحركات التحرر الوطني. ولم تتمكن تلك الفصائل أن تُمارس حق الاختلاف أو الاتفاق داخل الكينونة الفلسطينية «منظمة التحرير الفلسطينية» الأمر الذي قاد الى احتراب الأخوة ومن ثم ظهور تراجيديا الانقسام الجغرافي والديموغرافي، ونشوء كيانتين «تحت الاحتلال» في الضفة وغزة !! ما كان له أكبر الأثر السلبي على مسيرة الكفاح الفلسطيني.
فالفلسطينيون -مع الأسف- لم يتمثلوا اداء الحركة الصهيونية والتي -مهما كبُرت- تناقضات اطرافها واحزابها السياسية، تبقى تعمل في اطار مؤسّساتهم حتى قبل قيام كيانهم السياسي.
انّ الابقاء على وحدة المؤسّسات الفلسطينية وتفعيلها والتفاعل بداخلها اتفاقا او اختلافا والاحتكام الى مبدأ الأكثرية والأقلية هو شرط رئيس لتحقيق النجاح والوصول بالمشروع الفلسطيني الى غاياته النهائية والنبيلة بالانعتاق من الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية.
ومن على منبر ياسر عرفات أتمنى على الفصائل الفلسطينية أن يأخذوا خطوات تاريخية وأن يقدّموا تنازلات جريئة من اجل ترجمة اتفاقاتهم السابقة واعادة اللحمة للصف الفلسطيني والأرض الفلسطينية.
بل أدعو مؤسسات المجتمع المدني العربي ورجال الفكر والسياسة أن يبادروا الى عمل من شأنه تقريب الأخوة وتوحيد الصف الفلسطيني وانضواء الجميع في اطار منظمة التحرير الفلسطينية.
انّ الضرورة الوطنية الفلسطينية تقضي بأن يتفق الجميع داخل اطار منظمة التحرير الفلسطينية على أدوات المقاومة بأشكالها كافة، مقاومة مسلحة او سلمية، بالتظاهر او الاضراب أو العصيان المدني، والأهم من ذلك أن يتفق الجميع على أداة المقاومة التي تناسب كل مرحلة، فلا يجوز لأي فصيل بأن ينفرد بأسلوب خاص به. فالفلسطينيون في مركب واحد وليس من حق أي فصيل أن يحفر في هذا المركب لأن الغرق سيلحق بالجميع.
* وزير اردني أسبق