هذه هي مصر يا أعداء الحضارة والجمال !! د. عبد القادر فارس
عادت بي الذكريات للزمن الجميل , وأنا أشاهد عودة مصر إلى سابق عهدها من استقرار سياسي وأمني , وحركة ثقافية وسياحية , بعدما حاولت جماعات الارهاب والتطرف الديني , عدوة الحضارة والانسان والجمال , تشويه وجه مصر الجميل المشرق , وتشويش صفو الحياة في أرض الحضارات والفيروز , محط أنظار الأمم , وقلب الأمة العربية والاسلامية السمح والمسامح , لكل من عاش على أرضها , او زارها لمشاهدة جمالها . تبدأ الرحلة من قاهرة المعز , عاصمة أرض الكنانة , "أم الدنيا" كما يحلو لأهل مصر تسميتها , فالقادمون من أرياف مصر وصعيدها وكافة مناطقها , يقولون عند توجههم إلى القاهرة بأنهم " نازلين ع مصر " , ويحق لهم تسميتها كذلك , فهي أم الجميع حاضنة العروبة , ومركز إشعاع العلم والثقافة والحضارة , تدخلها من بوابة المطار , أو من أحد موانئها , أو من أرضها برا , فترحب بك يافطاتها الإعلانية " أدخلوا مصر آمنين " .. ففيها تشتم عبق التاريخ , من حضارة فرعون , حيث يربض أبو الهول حاميا لأهرامات الجيزة , يعيد إليك ما درست في كتب التاريخ في المرحلتين الابتدائية والإعدادية , تحلم برؤية ذلك الأسد الذي يحمل رأس إنسان , كناية على القوة والبأس المتمثلة في ملك الغابة , وفي العقل والفكر والحضارة , متمثلا في الإنسان الفريد الذي أقام هذه الأهرامات في غابر الزمان .. وتترك زمن الفراعنة , لتنقلك الحضارة إلى عصور متوالية يرويها التاريخ للأجيال , في دول وحضارات تعاقبت على أرض النيل , ومياهه العذبة , وتتذكر مقولة أهل مصر وكل من زارها , كل من يشرب ماء النيل العذب والجميل , لا بد أن يعود لمصر مرة ثانية , وليس ماء النيل وحده العذب الحلو الجميل , وعلى رأي المطرب علي الحجار " اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني " , ففي مصر تختلط وتجتمع خفة الدم وحلاوة الروح في صباياها ونسائها , وطيبة رجالها وأهلها وضيافة وكرم فلاحيها في صعيدها وبحرها , " قبلي وبحري " , وخير أرضها المعطاء , فتتذكر مقولة القائد العربي الفاتح لمصر عمرو بن العاص " أرضها ذهب , ونساؤها لعب , ورجالها طرب " , أهلها أصحاب نكتة خفيفة على القلب , تنتزع منك الضحكة " غصبا عنك " .. تنقلك هذه الصورة الجميلة البديعة الرائعة مرة أخرى لعاصمة العواصم , وتذهب بك الرحلة إلى تاريخنا الإسلامي الزاهر , بالأزهر الشريف , وبمسجد سيدنا الحسين " شي لله يا سيدنا الحسين " , هكذا يدعو المريدون حين يصلون إلى بوابة المسجد , وحين يصلَون داخل المسجد , وحين يلتفون حول المقام الطاهر لحفيد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم , فالقاهرة زاهرة بأزهرها , المسجد الجامع والجامعة , أول جامعة لعلوم الدين والدنيا أقيمت في أرض مصر وأرض العروبة والإسلام , ومنه انتشر شعاع العلم ونور الإسلام فعم بنوره الشرق والغرب .. فقاهرة المعز تزخر في عصرها الإسلامي بمكونات تذكرك بالعصر الفاطمي، والعصر المملوكي، وتحظى بمشاهدة جامع ابن طولون، وأسوار صلاح الدين، وقلعة محمد علي باشا .. ولا أحسن وصفا مما وصفها العلامة عبد الرحمن بن خلدون عند قدومه إليها بأنها " حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الدر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوها ، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقها، وتضيء البدور والكواكب من علمائها ". تتمدد القاهرة وتشعر وكأنك في بلد ولست في مدينة , فمن مصر القديمة , حيث بناياتها التاريخية المطعمة بـ " الأرابيسك " والنقوش الجميلة بالزجاج الملون والخشب المحفور بيد الفنان الشرقي الطابع , فتظهر مبانيها أروع هندسة وأكثر زخرفا، وتبدو أعمال الأرابيسك الفارسية والتركية أكثر جلاء وانتشارا، كما يشاهد ذلك الزائر لحي الأزهر ووكالة الغوري وخان الخليلي . تطل عليك الفتيات من نوافذ وشبابيك البيوت العتيقة , مبتسمات فرحات بكل ضيف وزائر,, يحملك سائق " التاكسي " إلى مطعم شعبي ليعزمك على " طبق فول " بالزيت الحار والطماطم , ثم يطلب لك " كباية شاي كشري " تحبس بها بعد أكلة الفول المدمس , حتى لا يثقل على معدتك , إذا كنت غير متعود على تناول الفول كل صباح , وبعدها ينقلك إلى مقهى شعبي , ويطلب لك " شيشة معسل " وهو يقول لك صباحك فل , ووسط روائح الفواكه المنبعثة من " الأراجيل " , تعيش أجواء شعب بسيط , يعيش بأحلام كبيرة بحجم قاهرة المعز , وبحجم مصر كلها ,, والزائر لهذه الأحياء الشعبية لا بد له – إن كان مثقفا – من زيارة سور الأزبكية المختص في بيع الكتب القديمة، حيث يحشر أصحاب المكاتب , أو " الوراقون " كما كان يسميهم " الجاحظ " , بضاعتهم في أكشاك ضيقة، ويعرضون أرضا , أو على مصاطب صغيرة , ما يرونه جديرا بإثارة فضول العابرين من صائدي النسخ النادرة ، والكتب زهيدة الثمن، حيث يعثر كل منهم على ضالته. من هذه الأجواء في مصر القديمة إلى مصر الجديدة , أحد الأحياء الراقية في القاهرة الكبرى , فهذه القاهرة الجديدة التي تتمدد لتصل إلى مدينة نصر , حيث تبتعد عن زحام وسط المدينة , وبيوت مصر العتيقة بمنازلها المتراصة , إلى رحابة البناء الحديث والبيوت العصرية , حيث الشوارع الواسعة , والحدائق الغناء المنتشرة في كل مكان , تنتشر فيها العائلات التي خرجت للترويح عن النفس وسط ملاعب الأطفال , وخضرة تنتشر على مد البصر , وهنا ينطبق المثل على مثل هذه الأماكن , حيث الماء والخضرة والوجه الحسن , ماء النيل الذي يغذي مصر وهبة الله لمصر , وخضرة أشجارها الدائمة , والوجه الحسن لصبايا ونساء القاهرة الحسان , وحلاوة وطلاوة اللهجة المصرية المحببة التي تعلمناها في الأفلام والمسلسلات , وأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وليلى مراد وشادية ونجاة الصغيرة ,, وغيرهم من المطربين والمطربات والفنانين والفنانات , ممن أشجونا بالأغاني والألحان في الزمن الجميل , ولا زالت أصواتهم مبعث الطرب والشجن الأصيل والسلطنة , الذي يذكرنا بالزمن الذي مضى ولن يعود. تتنقل في القاهرة على اتساع مساحتها , وتترك مصر الجديدة ومدينة نصر , وتفضل أن تترك سائق التاكسي الطيب , ليرتاح وتركب المترو تحت الأرض ينقلك بسرعة أكبر , من شرق القاهرة إلى غربها , ومن شمالها إلى جنوبها , مرورا بوسط البلد , وأحياء الدقي وبولاق أبو العلا وبولاق الدكرور وإمبابة , إلى الجيزة وشارع الهرم وحيه الجديد , وانتهاء بحي المعادي , وصولا إلى مدينة حلوان ,, لكن المترو الحديث لا يمكن أن ينسيك " الترولي " والمترو القديم الذي كان يسير ببطء السلحفاة , ويحمل سكته الكهربائية على ظهره " تقدح شررا " غيظا من بطء الحركة , وتحذيرا لكل من يحاول الصعود على ظهره هربا من دفع ثمن التذكرة , غير انك تصل مشوارك وفق المثل القائل : " في التأني السلامة وفي العجلة الندامة " , ولن تندم أبدا ما دمت تتجول في شوارع القاهرة بهذا البطء , لأنك عندما تتمهل , فإنك بالطبع يمكن أن تشاهد أكثر , وأن تتمعن أكثر في كل ما تراه.. وإذا أردت المزيد من المشاهدة والمتعة , فما عليك إلا أن تزور برج القاهرة , القابع على أرض الجزيرة , قرب حي الزمالك الراقي , والذي يعد من أبرز معالم القاهرة , ويعتبر تحفة معمارية بناها المصريون على شكل زهرة اللوتس الفرعونية الأصل رمزاً لحضارتهم القديمة , ويتكون من 16 طابقاً ويقف على قاعدة من أحجار الجرانيت الأسواني التي سبق أن استخدمها المصريون القدماء في بناء معابدهم ومقابرهم , وعندما تقف على القمة , تشاهد " بانوراما " كاملة للقاهرة، حيث النيل العظيم , والأهرامات وأبي الهول، ، قلعة صلاح الدين والأزهر , وتشعر وأنت تنظر في " التلسكوب " أنك تزور مصر كلها في دقيقة واحدة, وصدق المصريون عندما أطلقوا على القاهرة اسم مصر.