هيمنة المصالح بـ"تحميل" المذهب - بكر ابو بكر
من الضروري أن يتم الفصل بين الدين أو المذهب عن مجمل الحراكات والصراعات السياسية في منطقتنا، سواء تلك المستندة لإرث تاريخي أو إرث ديني لأنها لا تعبر عن الواقع وحقيقة الصراع.
إن الفصل بالتحليل بين "التحميل" المذهبي والديني يعطي صورة أكثر وضوحا للصراعات السياسية-الاقتصادية، فلم تكن يوما الحروب المذهبية في أوروبا التي استمرت لمئات السنين من أجل الله، وإن أسبغت عليها الكنيسة صفة الحروب المقدسة، وصفة الحرب الدينية، فأهدافها مغايرة، كما لم تكن (محاكم التفتيش المقدسة) في العصور الوسطى إكراما للحقيقة الالهية وإن ادارتها الكنيسة بوحي من الله كما ادعت أو اقنع الناس وقود الحرب فيها، كما لم تكن لحروب الفرنجة التي سمتها الكنيسة "الحروب الصليبية" دفاعا عن الله والمسيح، وانما كانت كل هذه الحروب هجوما على الآخر بعناوين أخروية، ودفاعا عن الذات المكتفية بذاتها من جهة (المطلق والحقيقة والقداسة والاستعلاء والهوى) وتحصيلا لمنافع سياسية واقتصادية مع اقتران ذلك من تحقيق الأمجاد الذاتية أو القومية أوتلك المرتبطة زورا بالله كدين أو مذهب محدد.
ان "تحميل" المذهب على جناح الصراع هو شأن سياسي لا شأن ديني، وما كانت معظم الصراعات سواء في أوروبا أو عالمنا العربي الاسلامي الا شأنا بشريا سياسيا تتعانق فيه المصالح الاقتصادية مع السياسية بما تتضمنه من هيلمان ونفوذ وتوسع ونزق وهوى ومع معطيات تحقيق المجد والسلطة وديمومة الحكم والاستبداد.
غرقت منطقتنا وتاريخنا العربي الاسلامي عبر التاريخ بمثل هذه الصراعات في مختلف العصور، إذ كلما نشبت معركة أو صراع وان تلفع باسم الدين، فانك ستجد أسبابا أخرى له من مثل الظلم والاستبداد والشرعية، نعم هو ذاك، الى جانب وجود صراع فكراني (ايديولوجي) ديني يتم تأجيجه أو الايمان به واستخدامه كقوة دافعة لتحقيق الحلم بالخلاص أو الجنة ان كان الايمان دينيا، او لتحقيق أحلام تمدد وتوسع امبراطوي او لتحقيق اهداف اقتصادية.
ما من شك أن العامل الديني كان حافزا هاما لدى القادة المشتبكين على الفوز بالحقيقة والكرسي والهيمنة، كما كان العامل القومي بل والقبلي العشائري، وعامل السيادة او الحكم او الهيمنة او التوسع ذو الطابع الجماعي او الذاتي ما يجعلنا لا نجد في اطار الحضارة العربية والاسلامية حروبا دينيا أو مذهبية ذات طابع عنفي الا ماقل، وفي المقابل فان صراع الدولة الدولة والسياسة والمصالح والأهواء كان هو الصراع الحقيقي أو مبررات الصراع الحقيقي في غالب فترات التاريخ.
ولنضرب مثلا صارخا بالتوسع الامبراطوري العثماني في الأمة العربية فلقد تجلت نجاحات السلطان سليم الاول بعد معركة مرج دابق قرب حلب بأن أعمل السيف في المصريين الابرياء بعد ان زحف لها من الشام الى القاهرة حتى رجاه أهلها واعترفوا بسلطانه عليهم.
وهو ذات الأمر الذي فعله الشاه اسماعيل الصفوي في ايران اذ اجبر الايرانيين من المذهب السني بمعظمهم حينها على اعتناق المذهب الشيعي الاثنى عشري كترس يستخدمه في مواجهة الدولة العثمانية، وتحقيق طموحاته السياسية والاقتصادية.
وان عدنا لليوم فيما نراه من افتراق للأمة الاسلامية والعربية لا يمكن ان تقفز فيه على الطموحات الايرانية المشروعة من وجهة نظرها، رغم انها غير جديدة، فهي من أيام شاه ايران المخلوع، ولم تستكن هذه الطموحات اذ استمرت العقلية التوسعية للطبقة الحاكمة في تمددها وبالطبع باستخدام القيم والاخلاقيات والمبادئ السياسية المصاغة في إطار المذهب دون وجه حق في محاولة كشفت اخيرا بوضوح مع اعلان أحد الممتلئين بغبطة التاريخ أنه يسعى لاستعادة الامبراطوية الفارسية (وعاصمتها بغداد) وهذا ليس كلاما لقاصر أو مراهق سياسي بل هو كلام يعرف صاحبه ما يقول جيدا، وهو حتما أخطأ وما أصاب.
اذ نظرنا لتصرفات حكومة ايران على الأرض من خلال تمددها في 4 دول عربية -كما صرح بعض قادتها بكبرياء- عبرجيوشها وحرسها الثوري بقيادة قاسم سليماني، نجد معهم عددا من مليشيات الحقد الطائفي التي لا تختلف عن الحقد الطائفي المثيل له لدى "داعش" في العراق او سوريا.
لا بد أن نرجع للوراء قليلا لنشكك بالنوايا الايرانية الرسمية في حربها الشيطان الأكبر أي اميركا الذي تتفاوض معه بسلاسة، وتتنازل وتتشدد وتستخدم القوة والعنف بالتعامل مع جيرانها الاقربين والأباعد من العرب.
ان التوسع الامبراطوري السياسي-الاقتصادي الايراني وفي محاولة للنظام أن يوحي لمريديه والناس أنه يمثل الدين أو المذهب حصريا -أي كان المذهب كما يفعل غيره- هو في الحقيقة يدافع عن وجوده ككيان سلطوي حاكم، وهذا الفعل لا بد له ان يستثير الاحقاد اوالدفائن والدوافع بكافة انواعها ومنها الجاهلية الدينية والقومية المذمومة في حربه لتثبيت حكمه الذي يعاني من لا شرعية دولية وتشكك اسلامي وحتى مذهبي في طبيعته.
إن محاولة العودة للوراء باستثارة وتوظيف الأحقاد "القومية"، التي قضى عليها الاسلام الرحب، وباستخدام البُعد الطائفي المختلِف، الذي وجوده مدعاة للحوار والتقارب والتراحم وتعميق الايمان بالتعددية، ما هو الا محاولة مكشوفة للتغطية على حقيقة الصراع الخارجي من جهة، وتغطية على الأهداف التي يسعى لها قادة الغطرسة والاستبداد، وداخليا هي محاولة لاظهار قوة "الدولة المذهب" أو "الدولة الدينية" التي يحكمها نصف الإله في مقابل أولئك داخل المذهب الشيعي الجعفري الاثنى عشري الذين يرفضون ذلك. وما يشابهه على الضفة الأخرى من دعوات لاستعادة "الخلافة" المقدسة التي يروجون لها بنفس منطق الاستبداد وسلب الحرية في فكرة النيابة عن الله.
ان التمدد السياسي الايراني لا نقبله بتاتا على أرضنا العربية مهما كانت المبررات، وهذا واضح، ونقبل بدلا منه أن تتجدد فينا وتمتزج معنا الثقافة العربية والثقافة الايرانية المتعددة الرائعة في عمق الحضارة الاسلامية والانسانية المتسامحة التي تميز بها كثير من القادة والمفكرين والادباء والعلماء والشعراء الايرانيين، والإئمة وجمهرة من الحكام على طول الزمن، فهل هذا قابل للتحقق اليوم؟؟