"جعفر" احتضِر في السجن ومات خارجه - عبد الناصر عوني فروانة
كثيرون هم الذين يعانون الأمراض داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويعانون قسوة السجن ويأنون ويتوجعون من شدة الألم. فتحالف عليهم المرض بألمه ووجعه والسجن بقهره وقسوته والسجان بعنصريته وعنجهيته. وهؤلاء يشكلون قرابة ربع العدد الإجمالي للأسرى. إذ تجاوز عددهم الخمسمائة بعد الألف، يعانون من أمراض مختلفة، مثل أمراض القلب، والسكري، والفشل الكلوي، والتهابات الرئة، والتهابات العظام والمفاصل، والشلل، والسرطان ..الخ.
والأعداد لا تقتصر على من ظهرت عليهم أعراض الأمراض وتأكد إصابتهم ببعض منها، ففيما لو أجريت فحوصات شاملة على الآخرين، فلا شك أن الأعداد ستتضاعف. وحتى الأصحاء من الأسرى قد ينضموا إلى جيش المرضى في أية لحظة. في ظل بقاء الظروف المسببة لظهور الأمراض والعوامل المؤدية إلى استفحالها وتفاقم خطورتها.
ولعل أكثر اللحظات ألماً هي تلك التي نقرر فيها الكتابة عن هؤلاء المرضى الذين لا يحظون بأي قدر من الرعاية، حتى رأينا منهم من فقد القدرة على أداء الأنشطة اليومية الاعتيادية، أو قضاء حاجته الشخصية.
إن حلم هؤلاء الأسرى بالعودة إلى بيوتهم، سيرا على الأقدام، بات يتلاشى مع فجر كل يوم جديد، كيف لا، وهم يرون إخوانهم المرضى يحتضرون ويتساقطون أمام أعينهم،وعلى مسامعهم، داخل السجون المنتشرة على طول الوطن وعرضه، أو خارجها بعد تحررهم بفترات وجيزة، نتيجة للأخطاء الطبية المتكررة، أو بسبب استخدامهم كحقول لتجارب الأدوية وحقنهم بإبر مسرطنة وقاتلة قبل تحررهم كما هو الاعتقاد السائد، أو جراء أمراض خطيرة أصيبوا بها وورثوها عن سجون يصفها الفلسطينيون بـ "مقابر الأحياء" وتديرها عصابات اسرائيلية.
"جعفر عوض". اسم جديد يضاف لقائمة طويلة من ضحايا السجون الإسرائيلية والاهمال الطبي. اسم لشاب يانع ذو الاثنين والعشرين عاما، من بلدة بيت أمر في الخليل، وهو واحد من الأسرى الذين مّروا على السجون وهم قصّر، وذاقوا مرارة التعذيب والسجان قبل أن يتجاوز الثامنة عشر، ومكث بداخلها في مرة سابقة ثلاثة سنوات ونيف، ليعاد اعتقاله في تشرين أول/نوفمبر عام 2013، ومع الوقت تسربت الأمراض لجسده دون أن تواجه مقاومة، ونهشت عظامه واستوطنت بداخله، فشكلت عبئا عليه وثقلا على أوضاعه الصحية التي تدهورت أكثر بفعل الاهمال الطبي الى أن وصلت درجة خطيرة وميؤوس منها أفقدته القدرة على الحركة. الأمر الذي دفع بسلطات الاحتلال للإفراج عنه بتاريخ 21 كانون ثاني/يناير الماضي. وعلى البوابة الخارجية للسجن وقبل أن يتجاوز اسوار السجن ينادي عليه السجان ويقول له باستهزاء العارف والمتيقن : (أنت في طريقك الى الموت). نعم كان في طريقه الى الموت وكان الموت بانتظاره..!. وهي ذات الكلمات التي قالها السجان من قبل لعشرات المحررين.
هكذا هي اسرائيل لا تراعي أوضاعهم داخل سجونها، ولا تقدم لهم الرعاية الصحية الضرورية، وتُهملهم عمدا ولا تقدم لعم العلاج اللازم، وفي الوقت ذاته ترفض تقديم العلاج لهم أو السماح لهيئة شؤون الأسرى والمحررين والمؤسسات الحقوقية بإدخال الأطباء والأدوية لهم. وحينما تتدهور أوضاعهم الصحية وتصل لدرجة ميؤوس منها، وفقدان الأمل في بقائهم أحياء، تلجأ الى اطلاق سراحهم قبل انتهاء مدة محكوميتهم ليموتوا خارج حدود سجونها، في محاولة منها للتنصل من مسؤوليتها.
هكذا فعلت اليوم مع "جعفر" وهكذا فعلت من قبل مع هايل أبو زيد، مراد أبو ساكوت، فايز زيدات، سيطان الولي، اشرف أبو ذريع، زكريا عيسى، زهير لبادة، وغيرهم. وجميع هؤلاء كان الموت بانتظارهم ليخطفهم قبل أن يتحرروا من الأمراض التي استوطنت داخلهم بفعل السجون، وقبل أن ينعموا بحياة هادئة ومستقرة مع عائلاتهم وأحبتهم ولو لفترة وجيزة قبل الرحيل الأبدي. فهي تتركهم يموتون ببطء شديد وحينما يحتضرون داخل السجون تطلق سراحهم ليموتوا خارجها.
لم تتردد دولة الاحتلال يوما في الإفراج عن أي أسير فلسطيني أو عربي تدهورت أوضاعه الصحية واقتربت ساعة وفاته، لكنها تُصّر على رفضها اطلاق سراح من لا تزال ساعة وفاتهم بعيدة حسب تقديرات أطبائها، بالرغم من خطورة أوضاعهم الصحية.
"جعفر عوض"استشهد داخل السجن أم خارجه، بعد تحرره من السجن مباشرة أم بعد شهرين ونيف من تحرره، فالأسباب واحدة، ولها علاقة مباشرة بالسجن. والجهة المسؤولة عن استشهاده هي واحدة فقط، ألا وهي اسرائيل ولا أحد سواها. هي من تتحمل المسؤولية الكاملة عن اصابته بالأمراض وعدم حمايته منها أولا، وعدم توفر الأدوات اللازمة لمقاومتها ثانيا، وهي المسؤولة عن استشهاده بإهمالها له وعدم تقديم العلاج اللازم له. إذ أن هناك منظومة متكاملة تهدف الى قتل الأسرى ببطء شديد. داخل او خارج السجن. وهذا يشكل جريمة وانتهاكا فاضحا لكافة المواثيق والأعراف والاتفاقيات الدولية التي ألزمت الدولة الحاجزة وبغض النظر عن طبيعة علاقتها بالمحتجزين أن تقدم لهم كل وسائل الحماية والوقاية من الأمراض وأن تحميهم من خطر الموت أو الاصابة بالأمراض.
نأمل أن يشكل انضمام فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية بداية لعهد جديد يضع حدا للجرائم الإسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني بشكل عام، وبحق أسرانا بشكل خاص.