ابو جهاد.. في القلب والذاكرة- احمد دحبور
في هذه اللحظات، وانا اتأمل الورق الصقيل، مستفزاً ذاكرتي عسى ان تجود علي ببعض فكرة، يقتحم الورق خلوتي رجل مهيب، كان قليل الكلام كثير الحضور، اكاد ألامسه بيدي ما يريد، والذي القى موته جانباً ليدخل في الهواء والذاكرة والاكل، انه خليل ابراهيم الوزير ابو جهاد لا سواه، وانني لمستغرق في ملامحه، كأنه يوشك ان يبادر او ان يقول، فهو على عجلة من الامر، كانت لديه مهمة او كلمة، بل انه سيد المهام والكلام، على قلة ما كان يقول وكثرة ما كان يجول في الروح والذاكرة والامل..
لم يكن الرجل خطيباً، وان كانت كلماته تنفذ الى الروح فترد الروح الى صاحبها، واذا فلسطين على مرمى حلم، واذا به في صميم ذلك الحلم، وكأنه، بل انه بيننا لا يزال..
في هذه الرحلة الشاسعة، دخلنا في تفاصيل وتضاريس، عرفنا الغربة والغرابة، فمر بنا رجال وقامات واحلام، وكان ابو جهاد في هذا الزحام، حلماً قابلاً للتحقق ومشروعاً يتشكل على مرأى من فلسطين، ومن غير ابن الرملة هذا يستطيع ان يزرع فلسطين في القلب والراحة؟
فاذا بالبعيد يناديك، واذا بالرملة تستوي حقيقة تعبر المستحيل..
لأكاد اقفز في الزمن، فإذا بي ذلك الفتى الذي لا يكاد يصدق انه امام الرجل الاسطورة، واذا بالاسطورة رجل حميم، صوته خفيض وجبهته مرفوعة، واذا بنا قاب حلم او ادنى من سدرة المنتهى وقد اخذت اسم فلسطين..
لم يكن كثير الوعود، ولم تكن فلسطين بين يديه، لكنه كان يتميز بكيمياء نادرة تجعل فلسطين على مرمى الامل، على ان نقوم جميعاً بإنشاء ذلك الامل..
وكما تبوح الريح بأسرارها، كان يفشي بيننا سراً، ويذيع أملاً، فاذا بفلسطين تعبر المستحيل، وتنضج وقعاً ملموساً تزداد كثافته المادية بقدر ما تزداد اليها حنيناً وشوقاً عنيداً..
قال ذات مرة، وكنا حوله بضعة شباب: تأملوا المشهد جيداً، فان ننتسب الى مجموعة، وان تكون في المجموعة مؤسسة لاسر الشهداء، وان نكون اولئك الشهداء او الشهود يعني ان الوطن غير بعيد.
وقد اتيح لي ان اراه ذات حصار، وكان بعض الشباب يتهامسون بأنه لم ينم منذ ايام، حتى اذا الح عليه بعض المخلصين ان يأخذ بعض الراحة، قال: ولكن مشروعنا سيلحق بنا الى الاحلام.. وهكذا كنا نستمد من هذا الحالم الكبير مفتاحاً لاكبر الابواب، اما اذا اتى الموت، فليأخذ هذا الطارئ حاجته ويرحل، لأننا راحلون الى الحياة، يقودنا ابو جهاد ورفقاء دربه..
ويذكر من عرفوه جميعاً، من شاركوه الخطر ومن رافقوه في رحلة عابرة، ان هذا العارف المتدبر، كان يجهل اشياء كثيرة.. الخوف مثلاً والتعب.. وها آنذا أحاذر ان يتحول الى اسطورة فهو في آخر حساب رجل من الرملة، زوج واب وشقيق وقريب، الا انه ايضاً وايضاً ذلك الحالم الذي يصنع احلامه بيديه، ثم يجعل من الحلم تاريخاً يتشكل على مرأى من الحاضرين جميعاً..
وليس ابو جهاد بيننا الآن حتى نجامله، وما كان ليحذق فن المجاملة وان كان ماهراً في تسديد الاحلام الى اعماق الامل، والى ذلك لم يكن بياع آمال او مسوقاً للاحلام، بل كان على شفا لحظة من فرح، وكان يعي اهمية ان نكون من رعايا هذا الفرح، حتى اذا استغرق احدنا في الاحلام، لم يكن ليستبعد الحلم، بل يعمل لانتاجه املاً بين اليدين..
وكأي قائد كاريزمي، كان يصغي الى الصغير والكبير، حتى اذا تكلم كان ما يصدع به اكثر من الكلام، انه الطريق الى الفعل حتى ليمكن القول ان ابا جهاد كان فعلاً متحركاً من لحم ودم..
ودعوني اذكر تلك اللحظة الفريدة العادية، فقد كان في زيارتي شاعر معروف من اصدقاء عمري، كنا في بيروت، ودخل علينا ابو جهاد فجأة، وكان على عجلة من امره لشأن ما، فبادر الى طلاء وجهه بصابون الحلاقة, وراح يرحب بالضيف ويكتب شيئا على ورقة أمامه ثم يرد على متحدث في الهاتف، واخذت صديقي الدهشة، فهذا الرجل اشبه بخلية نحل، يقوم بأشياء كثيرة وهو في غاية التمهل والهدوء، حتى اذا عرف ان صديقي سوري، راح يسأله عن سورية بالتفصيل، مبدياً درجة عالية من الاهتمام بالاحداث التي كانت تشغل سورية يومها، مستفسرا عن اخبار الاغتيالات التي كانت تؤرق البلاد.. وفجأة دلف الينا احد الكوادر الذي راح يحدثه بحماسة عما يجري في العراق وابو جهاد يجيبه كأنه في محرق الحدث.. فدهش صديقي لحيوية الرجل وعفويته وسرعة بديهته، وسأله عن توقعاته القريبة، فأجاب في هدوء: نحن نتوقع احداثاً خطيرة، وذهل نزيه ابو عفش - وهو ذلك الصديق المعني - فقال لي بعد ان خرجنا: انه يتحدث عن الخطر كأنه ذاهب الى السينما!! ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان هذه الواقعة العادية قد جرت قبل استشهاد ابي جهاد بأقل من شهر..
وسنستعيد هذه الواقعة، انا ونزيه، بعد بضعة شهور، اي بعد استشهاد ابي جهاد، فأردد على مسمع نزيه بيتاً من شعر فتى الثورة - ابي هشام المزين:
الفتح مذ بدأ النضال، رجالها متيقنون بأنهم شهداء
ولا يزال نزيه يذكرني بهذه الواقعة وذاك البيت، معبراً عن غبطته برؤية ذلك الرجل الفريد قبل استشهاده بفترة قصيرة.. ولا يزال ابو جهاد حاضراً في الذاكرة والقلب، وكأنه سيفتح الباب فجأة، ويدخل كعادته وفي فمه كلام يجب ان يقال..
على ان الرجل لم يكن مجرد كاريزما وعادات وتقاليد، بل كان حضوراً مشتعلاً ومحدثاً آسرا، حتى اذا تورطت معه بذكر واقعة على شيء من الاهمية، راح يستجلي الحقيقة بدأب وصبر، حتى كان يحذر بعضنا بعضاً من اقتراح فكرة امامه، لأنه اذا اقتنع بالفكرة فسيظل يتابعها ويستفسر عن مسارها.. والى ذلك، لم يكن يضن بالوقت اللازم على اي مشروع نقترحه عليه، اذا كان المشروع مقنعاً ممكن التحقيق .. والى هذا، لم نشعر لحظة واحدة بأنه مغامر، فهو لا يمضي في الفكرة الا بعد اقتناع، ولكنه بعد ذلك لا يكل ولا يمل من المتابعة والتدبر..
في هذه التجربة الطويلة، الشيقة الشاقة، مر بالواحد منا احداث ومفارقات ونماذج بشرية، واذا كان لكل بطل حادثة وقعه وتأثيره، فإن وقع ابي جهاد كان من النوع العابر للزمن، سواء كان ذلك من حيث حضوره الطاغي ام من النتائج التي كان يستخلصها من الوقائع التي تمر بنا..
وقد سألت الاخت ام جهاد يوماً، على سبيل الدعابة والاستفسار: كيف كنت تستوعبين انك في ظل هذا الرجل الكبير فأجابتني على الفور لقد قضى عمره رحمه الله وهو يستوعب معنى انه فلسطيني .. فقد كان ذلك يحمله مسؤولية نادرة ..
هي ذي السنوات تمضي والتاريخ يتشكل وابو جهاد يتعمق حضورا وتأثيرا وكأنه سيفتح الباب فجأة علينا ويدخل .. فاهلا ابا جهاد.. ومرحبا بدرة شهداء فلسطين..