على عتبة الذكرى
ذكرى النكبة، ليست سوى ذكرى الفاجعة، ذكرى البدايات المعتمة الموجعة، بدايات الخيمة المثقلة بالجراح التي تلاعبت بها رياح الحزن والهم واليأس والقلق، لسنوات طالت حتى نهارتها بليل بهيم، كانت أسئلة الوطن والمستقبل والمصير تبحث عن اجابات تدلها على الطريق، الطريق التي راحت بيانات عسكرية انقلابية تقول انها طريق الحرب الخاطفة لاجل تحرير فلسطين من النهر الى البحر، فما حررت سوى قبضتها ان تشتد على كرسي الحكم، ورجال عسسها ان يلاحقوا الفلسطيني كي لا يورط الامة في حرب لم يحن اوانها بعد, وما حان اوانها ابدا... !!!
لكن ذكرى النكبة هي ايضا ذكرى الاسئلة التي لم يطل الفلسطيني في الاجابة عليها بعد ان تحدى اليأس، وتجاوز الاحباط، وادرك ببداهة وطنية، واقعيات الحقائق الموضوعية، واقعيات السياسة والمصالح وموازين القوى، التي كانت في واد، فيما الخطاب الثورجي في واد آخر لا هم له سوى الاستهلاك وترويج اوهام الحل العسكري الشامل... !!
بعد ان تحدى الفسطيني اليأس وتجاوز الاحباط وادرك تلك الحقائق، اشعل حريقا في ليل النكبة ليضيء الطريق الى فلسطين, طريق الفلسطينيين اولا، بالثورة المسلحة التي فجرتها فتح في مطلع كانون الاول عام خمسة وستين من القرن الماضي.
وسرعان ما باتت خيمة اللجوء المذل تتحول الى خيمة تتوهج بالفدائيين الذين اعادوا باقتحام الصعب والاشتباك الاصعب مع الواقع وموازين قواه المختلة، وبالتضحيات العظيمة، اعادوا لفلسطين حضورها الانساني والسياسي، وحقيقتها كقضية شعب ليست ثمة قضية اعدل منها، بحقوق واهداف وتطلعات عادلة ونبيلة، حتى اعتلت منصة الامم المتحدة عام اربعة وسبعين وتسعمئة والف لتعلن انها تحمل بيد غصن الزيتون وبيد اخرى تحمل البندقية، فأما هذه البندقية لصراع يطول، واما الغصن الأخضر لسلام عادل وممكن.. وصدقت فلسطين الرؤية والموقف، فجاءت للتفاوض في "اوسلو" لتنشأ اول سلطة وطنية فلسطينية، وتحقق عودة اولى لعشرات الالاف من ابناء فلسطين، واستمرت وما زالت في دروب البناء والتأسيس من جهة، وفي دروب الصراع السياسي والمقاومة الشعبية المشروعة من جهة اخرى لتنجز الهدف الاكبر إزالة الاحتلال، واقامة الدولة الحرة المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، ومرة اخرى وبوقفة تاريخية ثانية، وباقحام لأهم الساحات السياسية الدولية استعادت فلسطين مقعدها في الامم المتحدة وان كان مقعد المراقب، لكنه المقعد المكانة التي تؤكد استحالة تجاوز فلسطين بعد اليوم كقضية دولة لا بد ان تقوم، بل كقضية ضرورة واقعية وموضوعية لا بديل عنها اذا ما اريد لهذه المنطقة استقرار وسلام عادل، يحقق الامن والامان لجميع شعوبها.
هل تدرك اسرائيل وهي التي ستحتفل بعد قليل، بما ارتكبت من مظلمة كبرى بحق شعبنا، بما أنتجت له من نكبة, هل تدرك ان الشعب الفلسطيني وقد تخطى تماما كل مقترحات النكبة، مقترحات اليأس والعدمية، انه لم يعد ولم يكن يوما في وارد التراجع والتخلي عن طريق الكفاح الوطني في سبيل تحقيق اهدافه وتطلعاته العادلة.. ؟؟ هل تدرك انه لم يعد بإمكانها اعادة انتاج تلك المقترحات المدمرة، فتكف عن سياساتها العنصرية وشهواتها الاستيطانية لتنسحب من ارض دولة فلسطين.. ؟؟
ندرك ونثق ان الامر لا يتعلق بالمعرفة هنا، ولا نتوهم ان اسرائيل اليمين الاستيطاني المتطرف ستصحو غدا، لكي تعترف بعبثية سياستها ضد الشعب الفلسطيني حتى تنهي احتلالها لارض دولته، ندرك ذلك جيدا، ولا نتوهم صحوة اخلاقية طالما ترسانة الحرب والعدوان والاستيطان هي التي تتحكم بسياسات اسرائيل، لكنا نطرح السؤال من اجل التاريخ، ونحن ادرى ان التمسك بثوابتنا المبدئية، ووحدتنا الوطنية واصرارنا على المضي في دروب المقاومة المشروعة، والمضي في هذه الدروب دون تردد او تراجع، هو من سيجبر الاحتلال على الانسحاب، خاصة ونحن اليوم نخوض الصراع في ساحات الفعل الدولية، وابواب محافله ومؤسساته الشرعية باتت مفتوحة امامنا من مجلس الامن حتى الجنايات الدولية.
انه الربع الاخير من مسيرتنا الحرة، الارض مكانها، ونحن من فوقها صامدون هنا، بل نحن فيها روح وارادة وقرار لا يعرف المساومة، قادمون الى الدولة وقادمون بها، وجرح النكبة، سيبقى هو جرح الاسئلة وجرح المعرفة وجرح التحديات ايضا، التي تصدينا وسنتصدى دائما لها، حتى نشفى من هذا الجرح، بالعودة والدولة الحرة المستقلة.
كلمة الحياة الجديدة - رئيس التحرير