المسن ابراهيم الدريملي.. سبعة عقود في "تصليح الأحذية"
- مارس المهنة وهو في عمر5 سنوات عن طريق عمه - دراجته الهوائية رافقته 40 عاما
توفيق المصري
قد تذبل بعض الورود مع مرور الوقت، لكن رائحتها وعبقها يبقى فينا حتى وإن مر على فقدانها عمر، كذلك الذاكرة حتى وإن امتلأت بمواقف وأحداث الماضي تبقى حية بكافة تفاصيلها لا المهنة ولا الزمان ينسى ولا حتى الماضي، وقد نقف بمنأى عن الأحداث لنبقى محتفظين بكل ما دار من حولنا، ربما لحظات العمل تلهينا.
ومنذ الصغر تنمو في ذهننا الأمنيات وأن الحلم الأكبر بأن نحصل على مهنة شريفة نقتات منها وتكون مصدرا لسعادتنا، وسعادتنا بها حتى وإن كان عائدها قليلا، لتصبح عالمنا وتبقينا في مكاننا إلى جوار الذاكرة، وقد نتقاضى منها أجراً زهيداً لشراء رغيف وقد يكون الأجر صاعاً من القمح أو الشعير أو بعضاً من الدراهم، ومن عاش ثمانية عقود تبرز في تفاصيل وجهه ملامح التعب والضنك.
في حي الدرج والى جانب مسجد السيد هاشم وسط قطاع غزة يجلس المسن ابراهيم الدريملي داخل صندوق من حديد منذ سبعة عقود ونصف العقد في ممارسة مهنة "صيانة الأحذية".
المسن ابراهيم الدريملي يروي لـ "استراحة الحياة" تفاصيل مهنته التي مارسها وهو في عمر5 سنوات قائلا ان أوضاع أسرته كانت صعبة منذ بداية حياته ووالده كان كفيفا ولم يكن يقدر على العمل.
وتابع أنه تعلم هذه المهنة على يد عمه الحاج حسن أبو يوسف الذي كان في الثمانين من عمره حين تعلم المهنة عنه، وكان له محل في حي الشجاعية، وورث هذه المهنة عن عمه الذي كان يعمل في شبابه مع الجيش التركي فترة حكمه لفلسطين.
المواطن الدريملي من مواليد عام 1932، أعرب عن سعادته بممارسته لمهنته، مشيرا الى أنه وهو في عمر 5 سنوات كان يساعد عمه في تحضير عدته وتعديل المسامير.
ولفت الى أنه حين كبر ظل في هذه المهنة، وفي عهد الانجليز والمصريين كان يتنقل على حماره مصطحبا معه عدته لعدة قرى فلسطينية منها برير، وزرنوقة، وزيتة، لتصليح أحذية المزارعين. وقال: "كنت أعمل وأتنقل في أنحاء متعددة في فلسطين، ومن كان معه نقود كان يعطيني ومن لم يكن معه كان يعطيني صاع قمح أو شعير وكنت أبيعه في أي بلد قبل عودتي لغزة".
لشيقل واحد فقط أوقف الدريملي حديثه ليتلقط زبونا بدا على تعابير وجهه مدى اشتياقه له وكأنما انتظره طويلا.
استأنف حديثه بعدما أصلح حذاء أحد المارة قائلا: "الآن المهنة لا تقارن بزمان.. زمان لم يكن غير نعالات وشباشب ودق مسامير، والمهنة الآن اختلفت، فكل الأحذية بتلزيق ماكينات وكل الماركة القديمة تركت، ولم يكن وقتها ماركات أصلية وكانت كلها محلية الصنع ولم نكن نسمع بالماركات التي ظهرت اليوم".
من الذاكرة
على هذه الأرض التي كانت ملكا لرئيس بلدية غزة راغب العلمي في عهد الإدارة المصرية لقطاع غزة والآن هي ملك لعائلة صبرة، يجلس الدريملي بلا أجر منذ هجرة عام 1948 التي بقي شاهدا فيها على خروج الآلاف من المواطنين الذين ركبوا البحر ليرسوا أمامه في أراض زراعية كانت تعج وقتها بالبامية والباذنجان والفلفل والخس والملفوف وغيرها من الخضراوات.
ولفت الى أن الفلسطينيين عانوا الويلات بعد نزوحهم، فلم يجدوا مكانا يعيشون فيه سوى بعض من الخيام التي نصبوها، وأن هيئة الأمم المتحدة قدمت مساعدات لهم بعد فترة طويلة وأنشأت لهم الكمب "المخيم" الذي ما زال المهاجرون يعيشون فيه في معسكر الشاطئ.
ويجلس الدريملي في مكانه قبل تعبيد الطرقات وانشاء المباني، ويذكر أن المباني لم يكن يكسوها غير الواح الزينكو.
تحويشة العمر
بـ 70 ليرة مصرية تزوج الدريملي بعدما قضى عاما كاملا في تحويشها. ويوضح أن مهنته لا تدر دخلا وأنه ذهب للعمل إلى جانب عمله في مصنع بلاط للشيخ هاشم الخزندار وكان يحصل على 12 قرشا يومياً، وتزوج في عهد الادارة المصرية وكان يبلغ من عمره 25 عاما ورزق بـ 3 أولاد و4 بنات.
تحت سطوة السلاح
ويوضح الدريملي أنه عاش أسوأ أيام عمره في فترة حكم الانتداب البريطاني لفلسطين. وقال ان الجنود الانجليز كانوا يطلبون منه تصليح أحذية الجيش تحت سطوة السلاح، لكنه رفض طيلة عمره تصليح أحذية الجيوش العابرة على فلسطين متحججاً بأن أحذيتهم تحتاج للصيانة بماكينات وهو ليس لديه سوى مطرقة وبضعة مسامير يدق فيها الأحذية التي يقدر على تصليحها.
ورغم التاريخ الذي مر أمام عينيه، لم يسجل اسمه في أي من الحكومات ولا حتى في ترخيص، ولم يحمل سوى بطاقته الشخصية، ويؤكد انه لم يقم بالترخيص في أي حكومة رغم القوانين الصارمة التي صدرت في عهد الإنجليز التي ما زال العمل بها قائماً.
ويضيف انه عاش طيلة حياته متمنيا ان ينظر إليه أحد لمساعدته, لكن كل الحكومات مرت أمامه دون أن يعيره أحدا انتباهاً. وبالرغم من أن مهنته لا تدر عليه دخلاً إلا أنه يأتي يومياً على دراجته الهوائية التي رافقته 40 عاماً ليجلس في هذا المكان حيث رأى التاريخ أمامه ولم يسجل في صفحاته.