رمضان يُشعل شوق أبو لبدة لصُبّارين المُدمّرة
أعادت الحلقة الـ (38) من سلسلة “ذاكرة لا تصدأ” لوزارة الإعلام رسم أجواء شهر رمضان وطقوسه وأطباقه في قرية صبارين، جنوب حيفا، التي دمرتها العصابات الصهيونية عام 1948.
وتفعل التجاعيد فعلها في وجه عطا محمود أبو لبدة، الذي تفصله سنة واحدة عن إكمال المئة عام، فيما تختزن ذاكرته الحية حكايات عتيقة لموسم الصيام في صبارين، قبل أن تحولها العصابات الصهيونية لأثر بعد عين عام 1948.
يقول: كانت بلدتنا كبيرة في سكانها، وكنا نعتمد على ما نزرعه، ونربي الأغنام، وخلال شهر رمضان وغيره نأكل من خيراتها، ولم نكن نحتاج إلى حيفا إلا لشراء قمر الدين القادم من الشام، والعجوة التي تصل حيفا من العراق.
سحور
ووفق الراوي، الذي تشير بطاقة هويته إلى ميلاده عام 1916، حين كانت تشتعل الحرب العالمية الأولى، فإن صبارين كانت تنتعش في رمضان، فتبدأ الناس في قبيل السحور بإعداد المجدرة ( العدس والأرز أو البرغل معا)، في تقليد لم يعد موجودًا اليوم، فيما كانت دواوين عائلاتها تشهد إفطارات جماعية، وسمر، وتزاور.
يضيف: كانت (الهيطلية) والزلابية والفطير والبرغل الوجبات الشائعة في رمضان، فيما كانوا يسمنون الخراف لذبحها نهاية رمضان، ويعرفون توقيت حلول الشهر الكريم وحلول العيد من الراديو الوحيد عند المختار مسعود عبد القادر، ولا أنسى حتى يومنا هذا مسحراتي البلد، واسمه أسعد الحاج أحمد، فقد كان يحرص على إيقاظ كل الأهالي، وقبل حلول العيد، كان الناس يتسابقون لمنحه صدقة الفطر. أما أحمد الجاد وعلي العبد الله، فكانا يضاعفان من عملها في تجارة اللحوم، ويوم العيد يذبح معظم الناس الذبائح والأضاحي.
الشيخ موسى
واللافت في حكاية أبو لبدة، الذي لا زال صامدًا في مهنته بالتجارة، التي تنقل بها بين صبارين وجنين، ويمسك حساباتها ويسجل عوائدها، أنه لا ينسى بالرغم من انقضاء 67 عامًا صوت المؤذن الشيخ موسى، الذي كان يصعد لسطح المسجد، وسط القرية، ويصدح صدى صوته في أماكن بعيدة منها. يفيد: في إحدى أيام رمضان، كنت بعيدًا عن البلد، وسمعت الآذان من مسافة بعيدة، فقد كان صوت الشيخ قويًا وجميلاً.
يسترد: درست حتى الصف الثالث في بلدتنا المجاورة لحيفا، ثم بدأت أعمل في تجارة الحبوب والأبقار، وأسست دكانة في برطعة الشرقية قرب جنين عملت فيها عشر سنوات، ثم انتقلت إلى جنين العام 1960، ولا زلت حتى اليوم.
تجارة
بدأ أبو لبدة تجارته مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وتعامل بالجنيه الفلسطيني، والدينار العراقي؛ عندما كان المحاربون الذين أقاموا في جنين يدفعون به قبل النكبة خلال تواجدهم في المدينة، والدينار الأردني، والشيقل الإسرائيلي، والدولار الأمريكي، واليورو، مثلما كانت بضائعه شاهدة على الحرب العالمية الثانية، وثورة 1936، والنكبة التي تلتها بعد 12 سنة، والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وهزيمة 1967، وحرب رمضان 1973، واحتلال لبنان 1982، وحرب الخليج بنسخها المختلفة، والانتفاضات والهبات الشعبية العامين 1987، و2000، والفتن العربية المختلفة التي يعاصرها اليوم.
يزيد: كانت البقرة الواحدة تُباع بثلاثة جنيهات بسعر دونم من الأرض، أما زمبيل التمر ( يزن 28 كيلوغراما) فثمنه 25 قرشاً، وكانت الأصناف الدارجة قليلة، فالأرز والسكر من مصر، والتمر من العراق، والملح من حيفا، والزيت من نابلس، بينما اختفت عشرات السلع وطريقة الاتجار بها، فلم يعد الدبس والتمر والكاز وأكياس البطاطا ومستلزمات (وابور) موجودة، واختفت طريقة بيع السمن والطحينية، فكانت تأتي بعبوات كبيرة ويشتريها الزبائن بالمفرق، أما السلع الصينية فلم يكن لها أي ذكر.
يحن أبو لبدة إلى صبارين وتجارته وذكريات مدرسته وبيته وأرضه، ويذكر تفاصيل عمله في طفولته بحقل زيتون العائلة، وزواجه عام 1936، وفقده لأول ابنه وابنه يرزق بهما بعد سنوات قليلة من ولادتهما في صبارين. ورحيل ابنه الوحيد عدنان عام 1998(عن 55 سنة)، فيما تسكن بناته الأربع الأردن، وصار اليوم الجد الرابع لأحفاد أحفاده.
ذكريات البحر
يفيد: من العادات التي حرص أهالي صبارين عليها، ذهابهم إلى البحر في حيفا ( يحتاج لنحو ساعتين سيراً على الأقدام) لغسل خيولهم بعد انتهاء مواسم الحصاد والبيادر، وكانوا يلهون هم أيضًا بالماء.
يتابع: كانت جنين في الستينات جنة مليئة بالبساتين، والمياه، وبيارات البرتقال، ولم يكن فيها غير سبعة تجار، وسيارتين، ولم تكن الثمار تأتي إلى الأسواق إلا في موعدها، أما اليوم فانقلبت الدنيا.
صُبّار
ووفق الموسوعة الفلسطينية، فإن صبارين جاء اسمها من نبات الصبار، وتقع جنوب حيفا، على بعد 35 كيلومترًا عن طريق مرج ابن عامر، وتعلو البحر بمئة متر، في الربع الجنوبي لجبل الكرمل، وفي منطقة محاطة بالجبال من جهاتها الأربع، وعلى رافد صغير من روافد وادي الغدران ( أو وادي السنديانة، أحد روافد نهر الزرقاء). بينما يمر وادي المزرعة شمال القرية على المسافة السابقة نفسها تقريباً، وتشتهر القرية بعيون الماء الكثيرة المتدفقة فيها، ومنها عين البلد وعين الحجة في شمالها، ومجموعة عيون وادي الزيوانية وعين “أبو حلاوة” وعين الفوار في شمالي الشرقي، وعين البلاطة وعين “أبو شقير” في شرقها، وعين العلق في جنوبها الشرقي وعين الخضيرة في جنوبها.
واستنادًا للموسوعة ذاتها، فقد امتدت القرية من الشمال إلى الجنوب، مع امتداد الوادي، وهي من النوع المكتظ. وكان فيها 256 مسكناً بنيت من الحجارة، عام 1931، وهو من من قرى قضاء حيفا الأولى في عدد السكان ومساحة الأراضي. وقد بلغ عدد سكانها 1700 نسمة عام 1945. وكان في القرية مدرسة ابتدائية واحدة للبنين.
واعتمد السكان في معيشتهم على زراعة الحبوب والمحاصيل الحقلية وتربية الماشية. ولم يكن لزراعة الأشجار المثمرة أهمية تذكر في القرية، التي دمرتها العصابات الصهيونية، وفي عام 1950 أسس يهود هاجروا من أوروبا الشرقية والصين مستوطنة زراعية باسم “عميقام” على بعد نحو كيلومتر جنوب صبارين.
62 رواية
بدوره، قال مسير أعمال وزارة الإعلام في جنين، عبد الباسط خلف، إن “ذاكرة لا تصدأ” التي انطلقت في مخيم الفارعة بالشراكة مع اللجنة الشعبية للخدمات، تنقلت بين قرى حيفا وجنين وغزة والرملة وبيسان ويافا وطولكرم، ووثقت نحو 50 رواية محكية منها، و12 شهادة متلفزة لشهود عاصروا النكبة وتجرعوا مرها. وأضاف: إن أربعة من الرواة، الذين وثقت السلسلة رواياتهم الشفوية، رحلوا عن الدنيا قبل أن تتحقق أحلامهم بالعودة لمسقط رأسهم، ومسرح طفولتهم.