كيف نتعلم من الناس؟ بكر أبو بكر
إن سألت أحدهم: مَن معلّمك؟ قد يسرح بعيدا في تاريخه الشخصي محاولا تذكر (المدرّس) أو (النموذج) الذي أثّر فيه، فلربما زاده هذا المدرس عِلما أو ثقافة أو أدبا أو قوّم في مسلكه، أوغيّر من طريقة نظره للحياة أو الناس أو الأشياء، ويسرع بالردّ ليورد اسم نبي أو شخصية شهيرة باعتبارها معلمَهُ، ولربما يتعصب البعض ليفترض أن معلّمه الأوحد هو هذا أو ذاك، أكان نبيا أو مصلحا أو شخصية تاريخية أو دينية أو فكرية...أو فنية، أو أمه أو أبيه، ولربما يأخذ منحى فكريا ويقول:علمتني تجارب الحياة، أو تعلمت من أخطاء الآخرين، أو ينخرط في ذاتية مفرطة ليفترض أنه فقط هو معلّم ذاته.
السؤال كبير وتصح فيه كثير من الإجابات، فلكل رأيه فيمن علّمه، بمعنى نقل اليه علما نافعا أوثقافة ما أثّرت به، أو غيّر سلوكياته أو اتجاهاته أو قوّمه وأرشده وفتح أمامه دروبا أو أغلق أبوابا شر مستطير.
نتعلم من الناس أكانوا مشهورين أم مغمورين، متعلمين أم أميين بالقراءة والكتابة، ونتعلم من كل شيء (نعم شيء) وهذا الشيء أكان بشرا أم حيوانا أم نباتا، أم كان ريحا صرصرا عاتية، أو نسمة مساء لطيف، أو نازلة نزلت على رؤوسنا أو صاعقة ونتعلم من موج البحر، بغض النظر عن حجم العلم أو تأثيره فينا من أيها.
التعلم من الناس والتنظيم
الوعي أن العِلم متاح في بطون الكتب وفي الحياة، وفي صدور الرجال (والنساء) دلالة انفتاح فكري، وسعي خالص لنُشدان الحقيقة تلك القابعة هناك، أو عند طرف عينك، أوفي ذرة التراب أو خليّة القلب، ولربما في أنين الفراشة أو صدى صوت الصحراء في يوم حر قائظ.
عنواننا كيف نتعلم من الناس؟ يفترض أننا من الناس – على اطلاق الناس أي بَرّهم وفاجرهم، من أحسن منهم ومن أساء – نتعلم ونتلقى الدروس فإن لم يكن لتجارب الحياة من تقدم وتراجع وصعود وهبوط وفشل وتردد ونجاح مُعلّم، فهل نسبق ذلك بالتعلُّم من الآخرين أم لا؟
في التنظيمات السياسية عامة تُعتبر الجماهير، جماهير التنظيم، وقود الفعل أو كما تقول حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح (وقود الثورة) أوكما تقول الأدبيات اليسارية (مادة الثورة)، والتنظيم مع الجماهير مثل (السمكة في الماء) أومثل (الجمل المتسيّد على عرش صحرائه وواحاته) والجماهير بالنسبة لابن التنظيم هي المؤشر لاتجاه الرأي العام، وإن لم يكن فهي إشارة على المزاج العام، والدليل على ضرورة التغيير أو التمسك بالفكرة أوالرأي أوالأسلوب أو تنويعه.
الاعتراف والإقرار قبل التعلّم
كيف نتعلم من الناس ؟ من الجماهير؟ أفرادا وجماعات وتنظيمات سياسية يفترض ثلاثة مبادئ أهمها: أننا نُقِرّ ونعترف، ويجب أن نعتبر أنفسنا جزء من الناس، لا طبقة متسيّدة، طبقة منفصلة، صفوة، (طليعة) أو(خاصّة)، أو (أهل حل وعقد)، أو (قيادة) دون غيرنا أو... جاءت من المريخ لتهدي سكان الأرض (الجماهير) الجهلة الأغبياء (العامة), وكلما ساد خطاب الفصل بين القائد أوالمُصلِح أو النبي أو المفكر أو القائد....أو المسؤول عن الناس في نطاق مسؤوليته أوخارجها، كلما سارا في اتجاهين متعاكسين.
لذا فالإقرر أولا: أننا (جزء من الشعب) وجزء غير متمايز إلا بالمسؤولية الممارسة فعلا، وجزء لأنه (مسؤول) يعني أن مهمته الكبرى (خدمة الناس) لا صفع وجوههم والتكبر عليهم.
ثانيا: علينا الإقرار بأننا لم –ولن- نختم العلم, لذا نحن نتعلّم، دوما وأبدا، وكما الحكمة العربية الشهيرة (أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)، ونتعلم من كل شيء (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ-الاسراء 44).
يقول الله تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ )(النحل: 78) فالذي خلق السماوات والأرض عز وجل ينير لنا طريق التفكير والتأمل والتعقل والتدبر في أحكام القرآن الكريم وقصصه، وفي خلجات النفس وصدر السماء الحافية، وفي ما خفي من أسرار الكائنات أكانت حجرا أم شجر أم بشرا في حث واضح الدلالة, والآيات الكثيرة، يحثنا على التفكر وعلى التعلم لذلك كانت الأسماع والأبصار والعقول، وفي ذات الأمر قال عليه السلام (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم أو متعلم) وقال: " مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ ".
ومن هنا فنحن نتعلم من كل شيء، وقطعا نتعلم من كلّ الناس برّهم وفاجرهم، شيخهم الجاهل وذاك كبير الأفعال, ومن شبابهم الطائش والنزِق وذاك المهذّب، كما نتعلم من النساء والأطفال.
أما ثالثا فإننا نُقرّ: أننا يجب أن نتعلم من الناس، كمعادلة هي نتيجة الاقرار أننا من الناس بلا طبقية أو انفصال أو تميز (مهما اختلفت المسؤوليات والصلاحيات والمهمات وطرائق التفكير ومستواها) وأننا يجب أن نتعلم من كل شيء أكان شيء مادي أم حيوي.
مداميك تعلمنا من الناس
من هنا يصح أن ننطلق لنضع بعض مداميك (كيف) نتعلم (أو أتعلم) من الآخر في كل شيء ونخصص هنا من الناس.
أولاً : علينا أن نستمع, نُحسِن الأصغاء، نُحسن التأمل، والتفكر والتدبر في كل ما يقوله الآخرين وللاستماع والإصغاء فن قائم بذاته (فن الإصغاء ومستوياته المختلفة قابل للتعلم والتدريب) فلا نقاطع ولا ندافع ولا نصرخ ولا نغفل ولا نسهو ولا نتعصب ولا نتغافل ولا نتهكم...ولحُسن الانصات نحث الآخر على الحديث، ونسأل حيث وجب بلطف ونعلّق حيث اقتضى
ثانيا : علينا أن نعطي "وقتا محددا" للحوار والمحادثة أو الاتصال، وعلينا أن نهتم, ونثني, ونستجيب سواء بالشكل أو الكلام, بالحركة والإيماءة، أو بالتعبير اللفظي... فلا إنصات ظاهر إن أدرنا الظهر للمتكلم أو تغافلنا عنه بحديث جانبي أو بحديث هاتفي أو على الحاسوب، ولا اهتمام كما لا استفادة إن اخرجنا العيون من ميدان الاصغاء... لذا فنحن نرغب ونهتم حقا، والوقت معك، ونثني ونمدح حيث نرى الإيجابي، أو(ننقد) دون قدح أو جرح أو اتهام، لذا نحن نستجيب بأناقة حسب تقديرنا لشخصية المتحدث أمامنا: أكان خجولا أم ثرثارا أرعنا، أم موجها أم عدوانيا أومنفتحا...الخ
أما ثالثا فنحن نتعلم ونتثقف ونستفيد من الناس بشكل مباشر أو غير مباشر بشكل آني أولاحق عبر إدخال (تعديلاتهم) التي تفاعلت فينا، في داخلنا، إدخالها في مضامين (منظومة) أفكارنا أوأفعالنا أوسلوكنا, وفي هذا إقرار حقيقي عملي بأننا نتعلّم، وإلا يصبح الإصغاء كمشاهدة الرائي (التلفزة) لمجرد قضاء الوقت أو الاستمتاع الحر، أو يصبح كأننا نتعامل مع الناس بالاستماع السطحي لمجرد إعطاء الانطباع أو التأثير المزيف أننا نهتم، لمكاسب شخصية.
الالتزام والتعلم
إن التمسك بالأفكار والأهداف الممثلة لمؤسسة أو تنظيم أو جماعة ضروري وهام، ويعني قبول انخراط الشخص فيها، وتفاعله داخل التنظيم في إطار الموافقة منه على الأفكار أوالغايات وعلى الآليات التشاركية (الالتزام والحوار والديمقراطية والنظام)، وهذا لا يعني في حال من الأحوال الجمود والتكلس كما لا يعني التقديس، ولا يعني التحجر، فالإيمان قاطع بالدليل والبينة، والشك جائز ويحتاج لبينة، والقرار وإن رفضته الأقلية واجب الاتباع في ظل الممارسة المعارضة الرشيدة، من هنا تظهر العلاقة الصحيحة بين الأيمان بالفكرة، والانصباط للأوامر داخل التنظيم، وتقبل الآخر، وبالتالي الانفتاح للتعلّم والاستزدادة فلربما ضمن عقلية البدائل والاحتمالات نرى طريقا (أو طُرقا) مختلفا فنلُجه.
إن لم نتعلم من الناس فتدخل أفكار وتوجهات واحتياجات الناس في برامج وخطط الأحزاب والتنظيمات السياسية وغير السياسية والجماعات، فهذه التنظيمات قطعا منقطعة لفكرها أولذاتها تعيش في عزلة، ليست بعيدة عن عزلة التنظيمات القومية أوالدينية أو الفكرانية (الأيديولوجية) المتطرفة، التي تراها بذاتها الشمولية والكليّة والحصريّة تُمسِك بسيف الحق ومفتاح الجنة.