الرئيس والرئاسات الثلاث - حسن سليم
استقالة الرئيس أبو مازن او عدم ترشحه في اي انتخابات قادمة لاي منصب سياسي، ليست قصة جديدة، بل بدأت منذ ما يزيد عن ست سنوات، حيث أفصح الرئيس عنها علنا في أكثر من مناسبة، مطالبا بترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، ومن ضمن تلك الترتيبات استحداث منصب نائب الرئيس، لكن الرياح لم تأت كما تشتهي السفن، فكانت العواصف وما حملت من أحداث تسارعت لتحتل الأولوية، تلاها الضغط على الرئيس لتأجيل هذا الترتيب على أمل تحسن الظروف السياسية، ونضوجها، لكن أمرا لم يتغير.
قرار الرئيس بعدم إعادة ترشحه لرئاسة السلطة في حينه لم يكن مقبولا لعدم جهوزية الهيئات لتحمل المسؤولية، وكان يُعتبر بمثابة ترك الأرض محروقة، ليبقى للرئيس خيار المراهنة على حدوث أو إحداث أي اختراق سواء كان على صعيد المصالحة مع حركة حماس أو على صعيد المفاوضات مع اسرائيل، لكن الحظ لم يكن حليفا لتلك المراهنة، ما أعاد التساؤل ليطفو على السطح،: الى متى الانتظار ؟ وسؤال بالعادة يكون جاهزا عند اتخاذ أي قرار أو الإعلان عن أي توجه مفاده : لماذا الآن ؟.
" الى متى الانتظار ؟ "، سؤال لم ولن يجد إجابة، كون الإجابة تتطلب وتكلف البعض جهدا لا يريد بذله في تحمل المسؤولية، والأسهل هو إبقاء الحال على ما هو عليه، أما السؤال " لماذا الآن ؟ " فسيكون أيضا الجواب الحاضر في مواجهة أي تغيير مقترح، وفيه دعوة للتشكيك في حسن النوايا أو مصداقية التغيير المطلوب، والاختباء في عباءة " نظرية المؤامرة "، وبالمحصلة يكمل جواب السؤال الشقيق، فيكون المطلوب إبقاء الحال على حاله، الأمر الذي لا يريده الرئيس، ولم يعد يقبل به، إدراكا منه لخطورة الظروف التي تمر بها قضيتنا ومشروعنا الوطني .
مرحلة التغيير التي أعلن عنها الرئيس، وبدأها بالإفصاح علنا عن عدم رغبته بالترشح لدورة أخرى لرئاسة أي من المواقع الثلاثة التي يشغلها، بدأها بالدعوة لانتخابات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مطالبا زملاءه في اللجنة بإفساح المجال أمام دماء جديدة طال انتظارها، وكوادر وطنية أكثر نشاطا وحماسا على المساهمة في إعادة بناء وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير التي تشكل حصنا وطنيا حاميا لحقوقنا وبقائنا على الخارطة الدولية لحين قيام دولتنا المستقلة.
وعلى ذات الطريق، وعلى صعيد حركة فتح، فقد بادر قبل ذلك لعقد المؤتمر السادس لحركة فتح في العام 2009 في بيت لحم، سبق واعتبر مراقبون دعوته مناورة او تهديدا لمنافسين، او تعزيزا لحلفاء، فكان المؤتمر وكان التجديد، ونجح من غير الاصدقاء وخسر حلفاء، واليوم يجدد مشواره مطالبا اللجنة التحضيرية للمؤتمر السابع بسرعة الانتهاء من التحضيرات لعقد المؤتمر السابع للحركة والمتوقع عقده في أواخر تشرين الثاني القادم، داعيا رفاقه في اللجنة المركزية للتوافق فيما بينهم على من سيقود السفينة خلفا له، كونه لن يعود لرئاسة الحركة، وفق ما أعلن.
وفيما يتعلق برئاسة السلطة، فلم يتغير موقفه الذي أعلن عنه سابقا، بقراره عدم الترشح لدورة ثانية رغم جوازه وفقا للقانون الأساسي الذي يسمح بالترشح لدورتين، بل عاد الرئيس واكد مطلبه القديم بالعمل على استحداث منصب نائب الرئيس، لضمان مرحلة انتقالية هادئة، يقودها شخصية وطنية تشكل محل توافق وطني جامع، بدل الانتظار لمفاجأة الاختلاف على من سيكون في المرحلة الانتقالية، ونذكر ظروف استشهاد الرئيس ياسر عرفات، كيف تم التوافق على ترشيح الرئيس أبو مازن بالإجماع، الأمر الذي ضمن حصانة للمشروع الوطني وعدم تعريضه لمخاطر الاختلاف، وقد ساعده حينها أن الرئيس كان يشغل منصب أمين سر اللجنة التنفيذية، ويحتل موقعا متقدما في فتح، وهو من الخلية الأولى لفتح والمنظمة، وكان يصنف بمثابة نائب الرئيس ولو بالعرف، وان لم يكن منصوصا عليه بالقانون الأساسي، لكن التوافق والإجماع الذي حظي به الرئيس ضمن هدوءا وسلاسة لانتقال السلطة لحين إجراء الانتخابات.
ان عدم الترشح لدورة اخرى هو حق للرئيس الذي قال صراحة في أكثر من مناسبة ان أسبابا عديدة تفرض التحضير الجيد والإعداد بما يضمن تحمل المسؤولية من بعده، وهو يشغل الرئاسات الثلاث ( التنفيدية، فتح، والسلطة)، ويرغب بأن يتحمل زملاؤه المسؤولية وزمام الأمور عبر انتخابات تجريها تلك الهيئات، لكنه ربط رغبته بترك موقعه بعدم التنازل عن اي من الثوابت، ونذكر جملته المشهورة في اذار من العام الماضي " الآن ابلغ من العمر 79 سنة ولن اتنازل عن حقوق شعبي ولن اخون شعبي وقضيته "
وبالمناسبة وللتذكير، حتى لا يتم تحميل الرئيس بما لا يرغب، فقد تولي الرئاسات الثلاث كإرث عن سلفه الرئيس الشهيد ياسر عرفات، الذي جمع بين رئاسة الحركة واللجنة التنفيذية لاكثر من ثلاثة عقود، فرضتها عليه طبيعة المرحلة آنذاك، فأصبحت عُرفا، ثم أضيف لها رئاسة السلطة الوطنية في العام 1996، بعد إجراء أول انتخابات تشريعية ورئاسية للسلطة الوطنية.
وحتى لا يكون قرار الرئيس بعدم الترشح مرة أخرى لأي من المواقع التي يشغلها، بمثابة ترك الأرض محروقة، فقد سعى بعقلانية وحكمة، وهو يدرك انه غير مؤبد في الحياة، فعاجل على نحو غير معتاد حتى في الاحزاب والفصائل الوطنية الديمقراطية، التي جرت العادة فيها ان تكون القيادة فيها من المهد الى اللحد، الى البدء بالترتيب لما بعده وهو حي، وان كانت اليوم بوتيرة أعلى من ذي قبل، فقد جاب العالم ليقنعه بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وبانه قد آن الأوان لإنهاء احتلال شارف على العقد السابع لم يبق من الأرض سوى فتات بالكاد تكفي قبورا لشعب محتل، ولم يبق صديق ولا قريب لحركة حماس الا وزاره طالبا منه التدخل لتعود الأخيرة عن انقلاب نفذته قبل ثماني سنوات اثخن الوطن جراحا.
الغرابة فيما يتعلق بإعلان الرئيس عدم رغبته بالترشح لدورة أخرى، انه بذات القدر الذي يستعجل البعض رحيله، هم انفسهم يريدون له البقاء ليتحمل المسؤولية نيابة عنهم، وليكون لهم فسحة التفاخر بالمطالبة بالتغيير ورفع منسوب الديمقراطية، وباصرارهم بالحفاظ على الثوابت ( جيفارا بالوكالة)، دون أن يخبرونا عن جهد جهبذ بذلوه لتحقيق تلك الأماني، أو خطة واضحة رسموها لجعل التمنيات حقيقة نتلمس أثرها، او نتذوق طعمها كما يصفونها لنا، لكن الواضح أن الأمر ليس أكثر من الرغبة بالإقامة في شقة مفروشة دون دفع تكاليف تملكها، أو دفع أجرتها أو حتى تنظيفها.
وبمقابل هذا الفريق المستريح، ينهض الثالوث المقابل الضاغط باتجاه التسريع لخروج الرئيس من الحياة السياسية، حيث إسرائيل بيمينها ويسارها تتحدث بلسان واحد عن " الإرهاب السياسي " للرئيس أبو مازن الذي كشف وجه إسرائيل القبيح أمام المجتمع الدولي بشكل لا يقبل التفسير أو التأويل . فيما " حماس الإخوان " التي لم يدخل الرئيس معها مواجهة دموية وبقي ينتظر بعقلانية متمسكا بالحوار معها، مراهنا على عودتها عن الانقلاب الدموي، والقبول بعمل حكومة التوافق الوطني لتهيئ لانتخابات تشريعية ورئاسية تنهي حقبة سوداء لم يعتد عليها شعبنا، وزار لهذا الغرض بلاد العرب والعجم لعله ينجح بإنهاء هذه المرحلة الساطية على مشروعنا الوطني. أما الفريق الثالث الذي تتعدد مشاربه وأفكاره ومصادر تمويله، فقد التقى على مصلحة واحدة تعيد له دوره ونفوذه وتأسس لإعادة إنتاج مرحلة حمدت الناس الله كثيراً على زوالها.
آجلا أم عاجلا، لا بد من اعادة ترتيب الشأن الفلسطيني في هيئاته القيادية، وغير ذلك هو بمثابة وضع الرأس في الرمل، وهنا بيت القصيد والسؤال عن مدى الجهوزية لدى الهيئات التي يرأسها الرئيس أبو مازن، ومدى القدرة على توفير ضمانة لقيادة السفينة إلى بر الأمان، والاستمرار بحفظ الأمانة بعدم التفريط بالثوابت والحقوق، واستمرار الطرق على رأس دولة الاحتلال حتى انسحابه من أرضنا، وإقامة حلمنا بالدولة وعاصمتها القدس، بدل الانشغال في كيفية توسيع ثقب السفينة، ثم التفاخر بمهارة القفز منها، واستعراض العضلات بالمقدرة على السباحة، والنجاة، وهي بالمناسبة نجاة فردية، غير مضمونة .