السياسي حين يكذب - بكر أبو بكر
ليس من المستغرب لدى كثير من السياسيين اللجوء للمناورة بالتعمية على الهدف أو الحقيقة، ويتفهم البعض آليات إثارة الغبار أو التهرب أو التحايل على الرد أو التعامل مع الموضوع من خلال إهماله أو تأجيله أو التقليل من شأنه، أو التسويف..إلخ.، لكن أن يلجأ السياسي للكذب الصراح وبيع الأوهام، أو يكون مغرقا بالجهل التاريخي والعلمي والواقعي فهذه طامة كبرى كان الأجدر بالنسبة له أن يصمت فلا يدعي الفهم، وهو والجهل صنوان، أو لأن يتصدى له فصيله فيأخذ على يده.
قال بعض نُقاد الشعر أن أجمل أو أعذب أو أحسن الشعر أكذبه، وحين النظر في الأشعار نجد الكثير مما يقال فيها، ومنها أن ما يراه هؤلاء كذبا ما هو - في رأي غيرهم- إلا ابداع في سياق جمالية وخيال الشاعر حتى الجامح منه، ويمثل اسقاطات وتأملات.
في مدح المتنبي لسيف الدولة الحمداني وما يحمله من مبالغات واضحة يقصد بها الفخر نقرأ النموذج التالي:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضّاح وثغرك باسم
وعموما اختلف الكثيرون في هذا القول أي (أعذب الشعر أكذبه) فمن مؤيد بوضوح، الى رافض حيث اعتبر أن (أعذب الشعر أصدقه)، وما في الشعر من خيال إلا تعبير جمالي ومجازي، وذهب فريق ثالث أن (أحسن الشعر أقصده).
هذا بجميع الأحوال لا ينطبق على السياسي مطلقا، فالسياسي الكاذب لا يكون عذبا أو حسنا، وإنما مضلِلا عن قصد، فعندما يكذب علينا السياسي علنا، فيغالط في الحقائق العلمية أو التي بين أيدينا وفي التاريخ، ويبني قصورا من الهواء للمستقبل وفي وعي الجماهير فإنه يدمر حاسة التلقي وخاصة لدى جمهوره المسكين فيصبح بلا حول ولا عقل ولا قوة يتلقى- الجمهور- ما يقوله وكأنه وحي يوحى.
ما أثار لدي مثل هذا الموضوع هو لجوء عدد من السياسيين للكذب الصريح رغم الانفتاح العالمي الإعلامي الكاشف للضلال لمن يبحث- ومنهم الفلسطينيون- الكذب ليس بالأماني أو الآمال أو التمنيات, وليس عبر الاتهامات، وإنما عبر الكذب الواضح في حقائق التاريخ، ومما قاله أحدهم مؤخرا ما يُضحك مثلا هو أن (حركة فتح نكاية بمنظمة التحرير بدأت المقاومة المسلحة) وهو لا يدرك أن نشأتها منذ 1957 على قاعدة المقاومة المسلحة كردة فعل على النكبة عام 1948 وردة فعل على تقصير كل الأحزاب بما فيها "الاخوان المسلمين"، أي زمنيا قبل المنظمة، وظروف اعلان انطلاقة فتح ارتبطت برؤية فريقين فيها, ويوغل بالكذب ليدعي مثلا أن (منظمة التحرير نشأت بقرار عربي) وهو غير صحيح البتة اذ استثمر أحمد الشقيري الدعوة العربية لإنشاء كيان بإقامة (منظمة التحرير الفلسطينية) بقيادات وكفاءات فلسطينية واعية، وبذات المقارنة حيث نشأت "حماس" بعد موات وسُبات وفشل اخواني استمر أكثر من 30 عاما بقرار فلسطيني اخواني ولم يكن بقرار من "الاخوان المسلمين" الرسمية أبدا، وفي نفس المقابلة للمذكور – مع العلم أنه كثير الشتائم والاتهامات والطعن واللعن والبذاءة وهذا موضوع آخر– عرج على دار الضيافة المقامة في قرية سردا القريبة من رام الله لضيوف السلطة من الخارج ليدعي كذبا – وهو يعلم أنه يكذب – قائلا: إن هذا البناء هو بيت الرئيس أبومازن ضمن مسلسله المتواصل بالتعهير بالفلسطيني، والشتائم التي لا تنتهي.
كنت أفهم أنه يختلف سياسيا, ويسبغ على اختلافه طابعا مطلقا ربانيا فيحصّن ما يقول على اعتبار أنه (الرباني) وبذا فهو ينطق بأوامر الله مباشرة ما يحاول اسقاطه على أتباعه وعلى الناس عامة, وكنت أفهم ان يعبئ جماعته بشكل متكرر بفكره وتحليلاته وضلالاته وأحلامه وأمانيه فهذا شأنه, ولكن أن يلجأ ومن سنين – ومثله الكثير – للشتم والطعن والتكفير والتخوين مما تعرضنا له سابقا كثيرا رافضين لمثل هذا الأسلوب فهو مما لا يُغتفر للسياسي، فما بالك بصمت القبور لفصيله السياسي عنه، بل وإتاحة المساحة له أسبوعيا ليلعلع على الفضاء.
الطامة الكبرى أن يكون السياسي عامة جاهلا بالحقائق وجاهلا بالتاريخ وجاهلا بالواقع والمتغيرات مالا يُغتفَر، فبدلا من تكرار الأكاذيب الناجمة عن كذب مقصود أو عن جهل عميق كان على السياسي أن يسأل ويتواضع فيقرأ ويتعلم، ولا يخجل من تصحيح ما أخطا به، ولن نقول أن يتعلم أدب الحوار قبل كل ذلك، ولنأخذ لذات الشخص وأترابه إشارات كاذبة متكررة أخرى-حتى اليوم- حول تقرير "غولدستون" (صدر في 23/9/2009) الذي أصبح أيقونة ضد مخالفيه على اعتبار أنه تم رفضه أو تأجيله من قبل السلطة، ما ينم عن جهل مطبق بالاجراءات أو تعمد الكذب، مع أهمية العلم أن اسماعيل هنية عام 2015 قلّل من أهمية هذا التقرير بل سخّفه رغم الزوبعة التي أثارها وحزبه حينها، إذ قال إن التقرير الأممي الأخير بشأن الحرب الثالثة على غزة عام 2014 (أهم من التقرير الذي صدر بعد الحرب الأولى المسمى "تقرير غولدستون").
السياسة الاعلامية والمرتبطة بالحرب النفسية لـ (جوزيف غوبلز) وزير الدعاية الألماني النازي القائمة على المقولة المنسوبة له (اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك) أو (اكذب اكذب حتى يصدقك الناس) هي سياسة فاشلة لأن آخرها هو الانتحار كما فعل (غوبلز) بإنهاء حياته عام 1945 بيده كما أنهى حياة زوجته وأولاده الستة بين عمر 4 و11 عاما بأن قتلهم بالسم.
(غوبلر) الذي كان أسطورة زمانه كان خوفه الأكبر من المفكرين والمثقفين فكان يتوجس منهم دوما ويقول (كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي).
إن بيع الوهم وأحيانا الأكاذيب من صناعات كثرة من السياسيين لا الشعراء أو المثقفين أو المفكرين، لأنهم يعبثون بحاجات الناس وقيمهم وأفكارهم، بل ودينهم بعد أن يضمنوا خضوعهم واستسلامهم لهم تحت راية القوة أو الدين أو السلطة، (دينيا الاستسلام لا يكون إلا للإسلام والوحدانية، لا لأدعيائه من البشر أيّا كانوا، لذا خلق الله العقل والميزان والاستخلاف وإعمار الأرض والعبادة).
تأمل تكرار أكذوبة أن السلطة الوطنية الفلسطينية (المتآمرة مع الاحتلال والعميلة التي تنسق أمنيا كما يكررون؟!) لا تشير في الخرائط داخل الكتب المدرسية الى جغرافيا فلسطين وتكتب بدلا منها (اسرائيل)! إذ لأي شخص أن يطلع على الصفحة الثالثة من كتاب التربية المدنية للصف الثالث ابتدائي ليرى الكذب الفاضح، الذي يتكرر خاصة حين يوجه الخطاب الفضائي لمن هم خارج فلسطين، ورغم أن مبعث اعتراضات الاسرائيليين المتكرر هو حول ذات الأمر وفي الكتب نفسها بتهمة أنه يشكل تحريضا ضد الاسرائيلي.
الاختلاقات والأكاذيب أو الخرافات وصناعة الأوهام- هي في الحقيقة اختراع توراتي بلا منازع وأخذ الكثير من العربان والمسلمين به- وتكرار هذه الأكاذيب بأسلوب (غوبلز) يشكل سياسة ثابتة لهؤلاء تترافق مع رفضهم حديث الرسول القائل (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)، لكننا نقول ان بيع الوهم اختلاق الأكاذيب, أو ادعاء المطلقية والتلفّع بأثواب القداسة لا تفيد أبدا، فبإمكانك الكذب على الواقع المُعاش والكذب على التاريخ كما تشاء، لكن ذلك يشكل تجارة بائرة لأن امكانيات الكشف والتبيان والمعرفة واسعة وواضحة وما كان يصدق في عصر (قطري بن الفجاءة) أو في عصر (غوبلر) لا يصدق اليوم، ولا يستطيع الثبات أو الصمود وآلاف الجامعات ومراكز الأبحاث والفكر والعلم تطلق أبحاثا علمية يومية، ولا يصمد الكذب والفضائيات وملايين المواقع الالكترونية تنشط في الفضاء، وهي تحت ضغط السبابة لأي شخص على الحاسوب أو الهاتف المحمول أو في جهاز التحكم للرائي (التلفزة)، أو من خلال كتاب قلّما يلجأ له الناس اليوم.. للأسف.