هل يقع انقلاب "حماس" الثاني ؟ بكر أبو بكر
خالط الصراع العربي–الإسرائيلي الممتد منذ زمن طويل فترات صعود وهبوط في أسس التفكير والعمل السياسي والانجازات والإخفاقات إلا أن أهم منجز سياسي استطاعت الثورة تحقيقه في فترة الشتات كان تثبيت فكرة وجود فلسطين على الخريطة السياسية شاء من شاء وأبى من أبى، وفي المعادلة العربية والدولية ما يُحسب للراحل الخالد فينا ياسر عرفات والقيادة الصلبة، وكان ذلك إثر نضال طويل وفي سياق بعث الكيانية الوطنية عبر جهود حركة فتح والفصائل، وفي تحقيق الإجماع عبر إطار منظمة التحرير الفلسطينية.
وعت حركة (فتح) أهمية الدخول في إطار المنظمة وتثويرها (لا تدجينها ولا الانقلاب عليها) من الداخل سياسيا وميدانيا عسكريا وفكريا وفي طريقة النظر وأساليب العمل الديمقراطي داخلها، وهذا ما كان، وإن بصعوبة، إلا أن السقطات اللاذعة التي أصابت جسد المنظمة حتى شاخت كانت في أبرز أسبابها لتعملق السلطة على حساب المنظمة بعد العام 1994 في ظل أولويات عُكسِت، وفي ظل اهتمامات ما كان يجب أن تكون بإهمال دور المنظمة كإطار جامع بكافة الفئات، وليس كمظلة لمجموعة من المتحكمين سواء أكانوا من حركة فتح أو من آخرين خارجها وحولها لنقع اليوم في ورطة الوضع العربي الذي وصل الحضيض.
مفاوضات "حماس" والمنظمة
عن "حماس" ومنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) الكثير مما يقال، بدءا من ما يكتبه ميثاقها ضد المنظمة بشكل سافر، إلى الانفصال العملي الحاد والمقصود منفردا عن فعاليات القيادة الموحدة للانتفاضة الأولى على الأرض حتى الآن، والأمر البيّن والواضح –الآخر- بلا لُبس بالعلاقة بين "حماس" و"المنظمة"، بل بين "حماس" والتنظيمات الأخرى يتمثل فيما ما تردده غالب قيادتها يوميا –وتعبئ به داخليا- وبلا كلل وبتعبئة موجهة أنها لا ترى بذاتها إلا "البديل" الاسلاموي للمجتمع والبديل السياسي للمنظمة التي تصِمها أنها علمانية -على فرضية أن العلمانية بتعريف الاسلامويين المغلقين الأحادي أنها ضد الإسلام أو كفر- كما تدعي، أوأنها تخلت عن المقاومة، بينما "حماس" تسوّق نفسها للجمهور أنها الوكيل الحصري لله جل وعلا، والممثل الأعظم للمقاومة معا، لذا فحجة الضرب على وتر التقصير بالحوار مع "حماس" وإدخالها كحجة ضد المنظمة تسقط منذ حوارات الراحل الخالد ياسر عرفات حتى قبل نشأة "حماس" في الثمانينيات معهم ك"إخوان مسلمين"، ثم الحوارات المطولة اللاحقة بلا طائل، إذ لم ترى "حماس" –بغالبها- حتى الآن ذاتها إلا البديل الجاهز المُمَكّن ما يسقط مفهوم الشراكة في العقل الحمساوي الجمعي كليا ما هو خطر داهم.
دعونا نحسب للمفاوضات الطويلة بين حركة فتح والمنظمة وبين "حماس" بالاتجاه الآخر لنرى فلا نضع مقارنة ظالمة كما يفعل البعض بين التفاوض مع الاسرائيلي ومع "حماس"، نحن نحسب للمفاوضات بين الإسرائيلي والفلسطيني التي دامت أشهرا فقط أنها 20 عاما بينما لا نحسب للمفاوضات مع فصيل حماس منذ العام 2005 على الأقل بنفس المنطق، فلا نقول انها استمرت عشر سنوات سبقتها عشرية أخرى منذ العام 1985 وسبقتها سنوات من الحقد والضغينة والتأليب (تعود مجددا)، أي أن الحوار والتفاوض مع "حماس" لم يتوقف، وفي جميع المراحل كانت تبرز العقبات وفق إرادة هذا المحور الإقليمي أو ذاك وخاصة من قبل "حماس" التي تنقلت بين أحضان النظام السوري (في سوريا طالبت مع الفصائل بإنشاء منظمة بديلة) ثم في أحضان النظام الإيراني، ثم في جعبة نظام "الربيع العربي" براكب الموجة "الاخوان المسلمين" والدول الداعمة خاصة تركيا وقطر، وكانت السيطرة ما جعل أثر الحوارات/المفاوضات مع "حماس" على الأرض بلا قيمة (سواء الأرض الجغرافية أو الأرض الفكرية والتعبوية) لا سيما عندما أقدمت "حماس" على الفعل الأحادي باحتلالها السلطة في غزة وتحقيق (التمكين) لحركة "الاخوان المسلمين" لأول مرة في تاريخهم على ما يعني عدم التفريط بأي شكل من الأشكال بهذا التمكين(الحسم/الانقلاب/تحقيق البديل) ضد أولئك العلمانيين أو اليساريين أو المرتدين أو المستسلمين أو الخونة!
إن المفاوضات التي دامت عشرات السنين مع "حماس" لم تكن لتقنع أصحاب الفكرانيات (الأيديولوجيات) الاقصائية الحادة بإمكانية المشاركة، فما بالك المشاركة في إطار المنظمة؟ (أنظر عدد الاتفاقيات بلا طائل منذ اتفاق مكة -على الأقل- عام 2007 الذي أعقبه الانقلاب الدموي في غزة الذي خلف ما يربو على 700 شهيد بيد مليشيات حماس، رغم أن أول بند باتفاق مكة نص على: تحريم الدم الفلسطيني قطعيا!) وما بالك بعد السيطرة بالسلاح على الأرض في غزة؟ وما بالك بفرضها أمرا واقعا بالقوة وبشكل منفرد؟ لتأتي "حماس" اليوم وتدعي بعد كل ذلك أن خطوة عقد المجلس الوطني – على عللها الكثيرة– هي خطوة منفردة أو تمثل استبدادا وتحكما من الرئيس أبومازن وحركة فتح أو السلطة؟ وفي إطار اعتراضها تدبج الخطاب كالعادة بشحنات وألغام وسيل لا ينقطع من الشتائم والتخوين المتضمن لهذه الاتهامات بشكل مقزز، أنظر من يتكلم بذلك؟ وأنظر من يتهم وهو صاحب الجسد المليء بالثغرات بهذا الأمر ؟ إنه ذاته من يرفض أصلا أن يكون جزء من النسيج الوطني إلا بالهيمنة واستبطان الانقلاب والتمكين والقوة والدم.
الانتخابات الأبدية والانقلاب
تتعلل "حماس" وخاصة تيار غزة بأنها تكتسب شرعيتها عبر الانتخابات التي تمت عام 2006 وتبني على الأرقام حجمها لتفرضه في أي حوار، وفي إطار المنظمة بالطبع دون أدنى جهد لعمل انتخابات جديدة، لا سيما أن تلك الانتخابات التي لحقها اغتصاب للسلطة في غزة بالقوة عبر الانقلاب عام 2007 ما سمته حماس (الحسم العسكري) انتهت مدتها القانونية من سنوات ثلاث، وهي بالانقلاب أخلّت بالعقد الاجتماعي عبر الديمقراطية التي سحقتها تحت ظلال السيوف وأعقاب البنادق.
وهنا نتساءل ضمن فهم عقلية حماس: لم لا يتكرر إحداث الانقلاب الحمساوي في إطار المنظمة عندما تدخلها ثم يتم تأبيدها بيد "حماس" لتنقلب في داخلها، كما هو حاصل مع الانتخابات الأبدية في إطار السلطة التي انتهت مدتها من عام 2006؟ وترفض حماس تجديدها إلا بشروطها؟ كما ترفض انتخابات البلديات والنقابات والجامعات في غزة؟
تضع "حماس" بالإضافة (للحجم) عبر الانتخابات المنتهية صلاحيتها، تضع انتصارات غزة (الحروب الثلاثة المدمرة) على رأس الرمح باعتبارها قائد المقاومة ووكيله عدا عن السياق الإسلاموي-كما أسلفنا- في عقلية استخدام مصطلحات اسلامية بشكل مغلوط كليا مثل: التمكين والولاء والبراء، وعقلية الإقصاء (وهي الفكرانية غير السياسية) أي عقلية الفسطاطين أي (المعسكرين/البديلين/المنهجين/أبيض واسود/الشر والخير...) التي تنكر الآخر ولا تعترف به البتة إلا في سياق مناكفات ومماطلات الى أن يصبح التمكين في غزة منصة للتمكين (وهو ذاته الانقلاب) في المنظمة، أو بديلها الذي عملت عليه في فترات سابقة ولم ينجح معها، فهل ننجحه نحن؟
ورغم عدم إجابة خالد مشعل في خطابه الأخير على سلسلة من الأسئلة بالامتناع والقفز لمواضيع أخرى إلا أن دعوات مشعل الايجابية لتطبيق الاتفاقيات التي منها إعلانه الالتزام بالشكل القادم لمنظمة التحرير الفلسطينية المتفق عليه، تعد أرضا صالحة لاستمرار الحوار، ولكن إن نظرنا لواقع الأمر على الأرض في سلطة "حماس" في غزة خاصة، نرى أن مثل دعوات السلم الأهلي الايجابية التي يطرحها مشعل وأحمد يوسف على سبيل المثال هي دعوات لا حظ لها من الحياة.
دعوات الوحدة بين أبومازن ومشعل
نحترم دعوات الرئيس أبومازن المتكررة لفصيل "حماس" (وقبله سعي ياسر عرفات الحثيث لإدخالهم المنظمة بلا مردود) التي كان آخرها أن يتفضلوا للانتخابات التشريعية والرئاسية ما لم يفعلوه، إذ طلب أن يوقعوا موافقتهم فأبوا، وان "يمكنوا" حكومة التوافق فأبوا، وأن يسلموا المعابر فأبوا، وأن يجروا انتخابات البلديات فأبوا، وأن يوقفوا سيل الضرائب على ظهر سكان القطاع فأبوا...الخ من سلسلة الإباء، ومع ذلك لم يكلّ او يتعب الفتحاوي في تواصله بالتقدم بالمبادرات على ظهر حمال الأسية عزام الأحمد (الذي ينال من التعريض من حماس حظا وفيرا) لجذب "حماس" حتى اليوم والى إطار المجلس ذاته الذي ينكرونه وينفرون منه.
هل نتفاءل بدعوة خالد مشعل من أيام للوحدة الوطنية والحوار وإعادة بناء المنظمة؟ وهو الذي يتلفّع مؤخرا برعاية جديدة؟ وهل نتفاءل أنه انتقى كلمات خطابه بدقة كان الأجدر بزملائه بالقيادة والناطقين الحمساويين أن يتعلموا الأدب منه في اللفظ والتعبير, بغض النظر عن اختلافنا مع بعض المضمون، فلا يكفّرون ويخوّنون ويتهمون؟ هل نتفاءل أم تعود (ريما لعادتها القديمة)؟ بعد وقت ليس طويلا؟
ستنعقد اليوم أو غدا، بعد شهور جلسة المجلس الوطني-ما يجب أن يكون من زمن طويل وبشكل دوري ما نؤكد عليه- فهل ستحضر "حماس" لا أعتقد، فهي البديل فكيف تحضر؟ وآمل أن اكون مخطئا فتحضر، سينعقد المجلس خلال مدة قصيرة رغم ما شاب دعوات الانعقاد في شهر أيلول عام 2015 في البداية من ضعف شديد بالدعوة لجلسة طارئة (خاصة) أظهر ارتباك حركة "فتح" والوضع الفلسطيني والعربي عامة، إلا أن تصليح المسار الى جلسة عادية كان يجب احترامه وتقديره والبناء عليه كمقدمة لإعادة بناء جسد المنظمة وتفعيلها بعد هذه الدورة للمجلس، ولكنه بدلا من ذلك بدأت المعاول تهدم في جسد الفعل الوطني الساعي للملمة الأمور ولو بالحد الادنى.
إن خطوة عقد المجلس الوطني الفلسطيني المتوجّب أن تتم ما طال انتظارها بحقّها، والتي أهملت لسنوات طوال ما كان خطأ كبيرا، ورغم ذرائعية عقدها بالبداية كما يثير البعض، ورغم عدد من الخطوات المتعثرة التي أدت إليها، هي رغم كل ذلك خطوة يجب أن تتم بأناة وتروي لتكون مقدمة حقيقية لإعادة تفعيل وبناء المنظمة كمؤسسة حقيقية عبر رفدها بكفاءات وقيادات جديدة فاعلة ومن الجيل الشاب بل والمؤسسات الشبابية من جهة، وفي أمد عام واحد أو اثنين للدورة التي تليها، وعبر برنامج سياسي نضالي وحدوي شامل، ونظام داخلي يتضمن عدم أبدية عضوية المجلس وقصرها على 5-6 سنوات مثلا، وعبر إعادة الهيمنة للميثاق الوطني الفلسطيني وعبر السعي الجاد لمهمة الوحدة الوطنية مع جميع فئات المجتمع ومؤسساته التي تجاوزت تركيبة المنظمة الحالية والتنظيمات، وكذلك الأمر في إعادة تشكيل المجلس بالانتخابات المباشرة لا سيما في فلسطين ليكون التمثيل القادم حقيقيا بلا أدنى شك، وتوافقيا أوعبر النقابات والمنظمات والمؤسسات الشعبية، والمنظمات غير الحكومية الفاعلة والجاليات خارج فلسطين.
إن منظمة التحرير الفلسطينية ليست إطارا فكريا مغلقا أو فكرانيا (أيديولوجيا) تحاول هذه الحركة أوالفصيل أن تبني فيها سياقها الفكراني فتدجنها أو تنقلب عليها ضمن منطق (التقدمية) أو (التمكين) الاقصائي، وليست إطارا حزبيا محدودا، وليست ملكا أبديا لحركة فتح أو للشعبية أو للجهاد أو لحماس او لغيرها، بل هي بناء لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج فهي بوضوح منظمة التحرير الفلسطينية فلا تلزم أحدا بفكره السياسي إلا بمقدار الاتفاق على الأهداف وعبر المجالس، وهي لا تلزم أحدا بفكره الديني أو مذهبه أو اتجاهه أبدا ما نخشى الوقوع به حال الانقلاب فيها وعليها، وإنما هي كما نؤكد إطار مؤسسي سياسي إداري نضالي جامع لكل من ودع الصمت وسعى لتحرير فلسطين.