عن سؤال الإسرائيليين: لماذا يقاطعوننا؟-محمد خالد الأزعر
لطالما حظيت الرواية الصهيونية حول طبيعة الصراع على أرض فلسطين وجوارها، لدى الرأي العام الغربي، بالصدقية بلا جدال. هذه الظاهرة التي امتدت لأكثر من مئة عام توشك الآن على الأفول، إن لم تكن قد أفلت بالفعل.
الإصغاء للرواية الفلسطينية المغايرة في هذا الإطار، يؤكد صحة المقولة الشهيرة: إنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. ويبدو من المدهش حقاً أن يتجاهل بعض المنظرين والساسة الصهاينة هذه المقولة، المحملة بعصارة خبرات إنسانية متراكمة عابرة للزمان والمكان. من تجليات هذه النقيصة ادعاء هذا البعض أن دعوات مقاطعة إسرائيل ومعاقبتها؛ المتصاعدة في عالم الغرب، إنما تعود إلى الحكاية القديمة المتعلقة بالعداء للسامية.
منذ ظهور هذه الحكاية شبه الخرافية انقلبت الدنيا رأساً على عقب، وصارت أفاعيل الصهاينة وموبقاتهم خارقة للأسماع والأبصار، وتأكد أن الضحية المسكينة ما هي إلا جلاد معتد أثيم. لكن البعض ما زال حبيس الكهف الذي صنعه لنفسه بنفسه.
لو كان العداء للسامية حقيقة ملازمة لليهود أينما حلوا، وكانت الصهيونية بمشروعها الكياني حلاً صحيحاً لهذه الإشكالية، فلربما ما بقي يهودي واحد خارج إسرائيل. لكن هذه الدولة (الحل!) توشك على استكمال عقدها السابع، وهي تضم بالكاد أقل من نصف يهود العالم. هذا دون الحديث عن كون معظم اللاجئين بها لا ينتمون إلى عالم الغرب على رغم أنه المتهم الأول بممارسة اللاسامية.
لا يريد غلاة الصهاينة الاعتراف بهزيمة بنيتهم الفكرية الأساسية عن العداء شبه الفطري للسامية. ما زال الأمل يحدوهم إلى استفزاز يهود من مواطنهم الأم إلى الدولة الملاذ؛ التي تعيش في دائرة من المحن. إنهم لا يريدون الإقرار بأنهم أوقعوا اليهود في حبائل عقيدة انعزالية تجاه مجتمعاتهم الأصلية أولاً، ثم دفعوهم تالياً للتعلق بحل جوهره استعمار وطن شعب آخر في فلسطين. لقد لفقوا المشكلة ثم وضعوا لها حلاً غير قابل للمرور الأبدي بأي حال.
من الواضح أن هذه التوليفة، أي المشكلة المبتدعة وحلها المقترح، لا تجد مقبولية مطلقة بين يدي كل يهود العالم، وإلا لما فضلت الغالبية منهم البقاء في مجتمعاتهم مع الاكتفاء بالتعاطف والتصهين الصوري عن بُعد. ندفع بذلك وفي الخاطر أن الصهاينة الأقحاح يعتقدون أن اليهودي الحق هو الذي يهاجر إلى إسرائيل ويتخذها مستقراً له.
في كل حال، من الملاحظ أن تزايد دعوات المقاطعة وإخضاع إسرائيل للعقاب وإلزامها بصحيح القانون الدولي وشرائع حقوق الإنسان والشعوب، تزعج الصهاينة إلى أبعد التصورات. غير أن استعماءهم عن المتغيرات والمستجدات المتسارعة من حولهم، يجعلهم يعيدون إنتاج مفهومهم المستهلك عن اللاسامية؛ الذي يجعل من كل صيحة عليهم وعلى إسرائيل. ومن غرائب ردود أفعالهم، الدفع بأن العالم برمته لا يرى من مصائبه سوى احتلال إسرائيل لفلسطين وقمعها للفلسطينيين، وهذا بزعمهم هو عين العداء للسامية.
يقول أحدهم ما موجزه "... إن هناك صراعات واحتلالات دولية أخرى، فروسيا تحتل جزءاً من أوكرانيا، والمغرب يحتل الصحراء المغربية، وتركيا تحتل شمال قبرص، وفي أفريقيا تُسحق حقوق الإنسان، وكذلك يُفعل بالسوريين والايزيديين والمسيحيين في الشرق الأوسط، ومع ذلك، يحظى عرب المناطق (يقصد الفلسطينيين) بالاهتمام الدولي المتزايد، لأن حربهم هي ضد إسرائيل، وهذا يعني التمييز بين دم وآخر بسبب اللاسامية وليس الاحتلال".
يتذاكى صاحب هذا الرأي، حين ينكر أن احتلال فلسطين هو آخر النماذج الاستعمارية الاستيطانية التقليدية القائمة في عالمنا الراهن، وكذا حين يستهدف تخبئة هذا النموذج الفريد والتعمية عليه، عبر مساواته بأمثلة لاحتلالات أخرى، لا يخلو منها هذا العالم بزعمه، ثم تنسيب التركيز على إسرائيل إلى اللاسامية لا أكثر.
والواقع أن مناورة كهذه تقوم على قياسات ومقارنات متهافتة، ومع هذا فإننا حتى لو جارينا هذا المنطق، على سخافته وعواره، لقُلنا: إن وجود احتلالات أخرى لا ينفي عن إسرائيل صفة الدولة الاستعمارية ولا يبرئ ساحتها، ولا يغفر لها انتهاك حقوق الفلسطينيين. ثم إن تعدد الاحتلالات لا يسوغ الاعتقاد أن إسرائيل مستهدفة، لأن اليهود مستهدفون أو مطاردون باللاسامية، وإلا ما الذي يمنعهم من التقاطر إليها سراعاً، للنجاة من المهانة في عوالم الآخرين؟
إسرائيل بكل بساطة معرضة للنبذ والمقاطعة، لأنها دولة احتلال وقمع وليس لأن الخلق أجمعين، وفي طليعتهم الرأي العام الغربي؛ الأوروبي خاصة، يعملون بوحي العداء للسامية. إذ كفى بالاحتلال سبباً لكراهيتها وإقصائها والتبرؤ من أفاعيلها.
عن "الحياة" اللندنية