تطور رؤية حركة فتح من البندقية إلى الدولة.. المدرسة العرفاتية (2-3) - د.مازن صافي
لم تكن المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي في بداياتها إلا تطبيقاً لمرحلتي اتفاقية أوسلو، حيث كان من المقرر أن تنتهي هذه المفاوضات بقيام الدولة الفلسطينية، وإيجاد الحلول النهائية لكثير من الملفات التي تم تأجيلها، ومنها المياه واللاجئين والقدس، ولقد تحملت حركة فتح العبء الأكبر وبل الرئيس بالقيام بكافة مهام السلطة الوطنية، وذلك نتيجة "عزوف" كثير من الفصائل الفلسطينية عن الدخول في مكونات السلطة، مما أدى الى "تفريغ" قيادات حركة فتح للعمل في مؤسسات ووزارات السلطة الوطنية، وهذا أوجد تداخلا وإرباكا في استقلالية التنظيم للحركة، أمام مسؤوليات السلطة، فإن قلنا أن منظمة التحرير الفلسطينية قد تحملت الكثير من المخاطر في سبيل إنجاح اتفاقية أوسلو لأجل الوصول للحل النهائي، فإن حركة فتح تحملت أيضا المخاطر من أجل نجاح منظمة التحرير الفلسطينية، ولقد دفعت حركة فتح ثمن فادح نتيجة لقيام (إسرائيل) بعدم تنفي بنود اتفاقية أوسلو ومراحلها، و لقد غابت المرجعيات الدولية والإقليمية أيضا، وبالرغم من كل المحاولات الدولية والإقليمية ومن خلال المبادرات واللقاءات لمنع الوصول الى الفشل ودخول المنطقة في مربع الصدام المباشر، إلا أن هذه المحاولات كانت عبارة عن جرعات تخديرية، أطلقت من خلالها (إسرائيل) ماكنتها الإعلامية الضخمة، لاتهام السلطة الفلسطينية بأنها غير جادة في السلام، واتهام القيادة الفلسطينية والرئيس الشهيد ياسر عرفات أبوعمار، بأنهم غير شركاء في عملية السلام، ولقد عمل المفاوض الإسرائيلي لأجل الوصول الى صوت الناخب الإسرائيلي على حساب الاتفاقية، وفي نفس الوقت حصلت فتح على الأصوات وخسرت المقاعد في انتخابات 2006، لأنها تحملت كل إخفاقات السلطة وبما يخص بالوصول الى الحل النهائي، ودخلت المنطقة في الانتفاضة الثانية "الأقصى" التي وجدت فيها حركة فتح أنها انتفاضة للشعب الفلسطيني، وبالتالي ظهرت قوة حركة فتح في قيادة الجماهير الفلسطينية، ولم تعد مؤسسات السلطة تعمل كما كانت قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، وعادت البندقية الى أرض المعركة بعد أن صمتت طويلا، وأصبح العمل السياسي منوط للسلطة الفلسطينية، وأما العمل العسكري "عسكرة الانتفاضة" بكافة أنواعه فقد كان لحركة فتح الدور الرئيس واعتبرت (إسرائيل) أن الرئيس الشهيد أبو عمار هو القائد الفعلي لانتفاضة الأقصى، وقالت أنه تخلى عن أوسلو، ولهذا قررت رسميا القيام باغتياله وحصاره، ونجح الشهيد أبو عمار بالإفلات من المؤامرة التي حيكت ضده في كامبديفيد، "لكي يتخلى عن القدس"، ولكنه قالها للإدارة الأمريكية وبوضوح أنه في مسألة القدس لا يتنازل ولو قطعت رقبته، ولقد كان صادقا فيما قال، فهو السياسي العسكري الذي اعتبر أن انتفاضة الأقصى يجب أن تستمر بكل ما فيها لأنها الرد الحقيقي على الاحتلال ورفضه للحقوق الفلسطينية، وكان على استعداد دائم لدفع الثمن حتى الشهادة، وتم حصاره في المقاطعة، وصمتت عواصم العالم أمام عنجهية الاحتلال وجمدت اتصالاتها مع الرئيس ابوعمار كوسيلة يائسة لممارسة الضغوط عليه، حتى كثير من زعماء العرب ونتيجة لتبعيتهم للقرار الأمريكي، لم يقوموا بالواجب العربي عليهم وفك الحصار عن الرئيس، حتى تم إغتياله مسموما في المقاطعة، ودفن في رام الله، تمهيدا لتنفي وصيته لكي تحتضنه أرض القدس، وكان صادقا فيما قاله وهو مغادرا بيروت أن المحطة القادمة هي القدس.
وبالانتخابات المباشرة فاز الرئيس محمود عباس برئاسة السلطة وأصبح رئيس حركة فتح ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولقد قال منذ البداية :" الكرسي ليست غاية بالنسبة إلي وليست هدفاً. الكرسي وسيلة فإذا استطعت ان أحقق ما لديّ من خلالها فأنا باق ومستعد ان أقاتل وأصارع من أجل ذلك. أما إذا وصلت الى طريق مسدود ولا أمل لي في تحقيق ما أريد، فإنني لا أرى عندها فائدة من بقائي. "
ان منطق حركة فتح في الدخول في عملية السلام بالرغم من كل جرائم (إسرائيل) وقتلها للقيادات الفلسطينية والمجازر في المخيمات بالداخل والخارج، هو منطق أن لشعبنا الفلسطيني حقوق تاريخية، ويجب أن يحصل عليها ومنها حق العودة وحق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وبالتالي تؤمن حركة فتح بأن هذه حقوق لا تسقط بالتقادم وأن السلام يبرم مع الأعداء.
ويكرر الرئيس محمود عباس مقولته الدائمة أن هناك مسائل لا يُقبل بها ولا نَقبل بها، ومنها الحدود ومسألة اللاجئين، ويتفاخر بأنه (عرفاتي) وأنه مثل ياسر عرفات ومن المدرسة نفسها، وفي نفس الوقت فإن قادة الاحتلال المتطرفين يصفونه بأنه أخطر على (اسرائيل) من الشهيد أبوعمار.
* لنا لقاء في الجزء الأخير.