الاسير نضال ابو عكر... رأيت البحر - عيسى قراقع
في اللحظة التي علق فيها (7) اسرى إداريين اضرابهم المفتوح عن الطعام ومعهم ما يزيد عن 30 اسيرا متضامنا يوم الثلاثاء 29/9/2015، وبعد اربعين يوما متواصلا وفي ظروف قاسية وصعبة، قال لي الاسير نضال ابو عكر الذي يقبع في سجن النقب الصحراوي: لقد رأيت البحر.
لم أتوقع هذه العبارة المفاجئة لأسير خاض اضرابا طويلا ومر في وضع صحي صعب جدا، خاصة انه مريض ومصاب، خرج من العزل الانفرادي ومن أقسام السجناء الجنائيين، ومن جحيم الضغوطات النفسية والصحية والمعيشية التي تعرض لها مع سائر الاسرى المضربين.
رأيت البحر، اين هذا البحر في صحراء النقب الجرداء؟ التي لا ينبت فيها زرع ولا شجر، ذات الشمس الحامية والخلاء الساخن الذي يشوي اجساد المعتقلين ارضا وجوا، سماء حمراء فوقهم، وطيور هاربة...
رأيت البحر ، قالها وهو مبتهج وفرح وكأنه فراشة تطير، لا قيود على يديه، لا أمراض ولا دوخة ولا تقيؤ ولا وهن بسبب الاضراب، معنوياته العالية تخترق الحواجز والخوف، وقد سمعت طفلا يعبث بالهواء، يرتفع عن السياج، يؤكد ويكرر بصوته الدافيء : رأيت البحر...رأيت البحر.
رأيت البحر، كانت رسالة مختصرة هائجة عن انتصار إرادة الاسرى المضربين ضد ارادة السجانين وقوانينهم الظالمة، وكانت رسالة مبلولة بجوع الاسرى وعرقهم وتعبهم وهم يقاومون الاعتقال التعسفي والمحاكمات غير العادلة وسياسة الانتقام من المعتقلين.
وعندما سألته اي بحر يا نضال؟؟، قال عندما اخذوني من الزنازين الى مستشفى برزلاي في مدينة عسقلان لإجراء فحوصات طبية، رأيت البحر في الطريق، رأيت الماضي والحاضر، رأيت خطواتي السابقات واللاحقات، رأيت الموج يناديني، فسرى في جسدي وعضلاتي تيار العافية والقوة.
رأيت البحر، ومشيت على مينائي، وشعرت ان قلبي سالما صلبا، وأن ذاكرتي تفتحت وامتدت من مخيم الدهيشة الى ثنايا الحجر، وأن هناك في البحر من يبحث عني ويوصل ما انقطع مني، يرتق ثوب الغياب واللجوء...رأيت أهلي ابا عن جد.
هذا انا ايها البحر، قال نضال ابو عكر، انا ابن المخيم الولد الشقي، انا ابن مائك وابن امواجك، جئت منك واليك، خرجت من ازقتي واقفاصي وفقري الى قصائدك المفتوحة على الحب والسلام، بلا حدود وبلا حواجز، بلا قناصة يقفون فوق بيتي ليقتلوا اخي محمد برصاصهم المتفجر، هذا انا تعرفني، اكتب اسمي على صفحاتك وصخورك ولا تسافر.
هذا انا ايها البحر، الاسير اللاجيء الخارج من المواجهة مع الجلادين هنا في السجون، امشي على الطريق الساحلي، افتش عن قريتي التي جرفوها، وعن رائحة أهلي الذين دفنوا تحت التراب، كأن ذاتي الان صارت قطعة متنقلة تسمع صوت القرى المنكوبة وهي تنادي على القرى الناجية.
رأيت البحر، رائحة برتقال في جسدي، اسرار الارض تفيق، عشب ينبت على يدي، والذي جرى ليس خيالا يطير على حصان، الذي جرى ان البحر القى علي السلام، وعلى الاسرى الخارجين من معركة الامعاء الخاوية، البحر صافحنا واحدا واحدا وعبأ الذاكرة.
رأيت البحر ، قال نضال ابو عكر هو يحاور السجانين المندهشين من قدرة هؤلاء الاسرى على الحياة ما بعد الموت المتوقع، اعينهم مشبعة بالصور والذكريات وتلاطم الموج.
رأيت البحر، عاد الاسرى الى البحر والحرية، شحنوا قلوبهم بالماء، وعاد الاسرائيليون الى الصحراء ، حاكموا الناس والارض، فحاصرهم الفراغ، سقط الوعد، انهمرت المطالع زرقاء زرقاء.
رأيت البحر ...
لم ينزل الناس عن الكرمل
لم ينس الهواء صوتي
تحرك الآن ايها البحر