"هبة الصبار" و"قانون السوق الذهبي" - حسن سليم
هي "هبة الصبار"، نسبة الى النبتة المقاومة التي تتحدى أحلك الظروف وتنبت، وتتسلل جذورها حيث الرطوبة لتغذي ألواحها وثمرها ليأكله الباحثون عن النجاة من الجوع في صحراء قاحلة. وفي ظروف الاستقرار وعندما يحل موسمها، يشكل ثمرها وجبة لذيذة في الصباح الباكر.
"هبة الصبار" اسم لرد شعبي من شباب اعزل، جُلهم وصل الى الحياة بعد اتفاق أوسلو، فتوقعنا له ان يكون مختلفا في طريقة تفكيره، ونمط رفضه للاحتلال، بل وأغرقنا في التوصيف غير اللائق له، بين جيل الكورنفلكس، لتنعمه بالغذاء ودلاله، وعندما يعبر عن اعتراضه، يستسهل البعض توصيفه بثائر الفيس بوك، لكن وجوده على الأرض اليوم وما أبدع من أشكال في مقاومة الاحتلال وكسره لحاجز الخوف يؤكد أن الرهان بتطويع الفلسطينيين وإعادة صياغة وعيهم للقبول بأقل من حقوقهم المشروعة، أو تنازله عن ثوابته، ما هي إلا مهزلة تحليل سياسي، أو تحشيش فكري.
"هبة الصبار" التي غابت عنها قيادات فصائل وأحزاب، ورعايتها السياسية وتوجيهاتها، جاءت من وحي معاناة شعبنا وظلم الاحتلال له، ترسل اليوم أربع رسائل:
الأولى، للمجتمع الدولي، وجاءت منسجمة مع ما ورد في خطاب الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة في الثلاثين من أيلول الماضي، بسرعة التحرك لتحمل مسؤولياته، تجاه شعب يعلق الآمال الكبيرة عليهم لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، مذكرا إياهم بالظلم التاريخي الذي وقع على شعبنا، ومحذرا إياهم من فلتان الأمور الى المجهول، مع التأكيد ان شعبنا ليس كما يتصور البعض، بأنه جاهز للتضحية بحياته مقابل لا شيء، بل يحب الحياة ويعشقها، ولكن عندما يكون الاختيار بين حياة مجبولة بالذل وامتهان الكرامة، وبين الموت الكريم والمشرف، يختار الثانية.
أما رسالة "هبة الصبار" الثانية فكانت موجهة لدولة الاحتلال، وهي أيضا جاءت منسجمة والخطاب السياسي الرسمي، والتي تتساءل بأنه أما آن لهذا الاحتلال أن يزول، ولعذابات شعبنا أن تنتهي، ولكن لغة الخطاب في هذه الهبة تشدد على انه لم يعد مقبولا أن يكون الاحتلال رخيص الثمن، أو دون تكلفة، ولا يجب أن يتوقع ان يرميه الشعب المحاصر والمكلوم، بالورد مقابلا لجرائمه التي يتفنن بتنفيذها سواء من خلال جيشه "الأزعر"، أو قطعان المغتصبين المتروكين يعيثون في الأرض فسادا.
أما الرسالة الثالثة، فكانت لتلك الفصائل والأحزاب، مطالبة إياهم بالخروج من حالة التجمد والانكفاء، وبضرورة استعادة دورها الكفاحي سواء فيما يتعلق بدحر الاحتلال وكنسه، او بالإسراع بطي الصفحة السوداء من الانقسام، بما يخدم الهدف الرئيس بالإبقاء على الاحتلال في موقع المواجهة وصولا الى استكمال مرحلة التحرر الوطني وإقامة الدولة، وكان المنتظر منها دوراً اكبر من الاختلاف على تبني شهيد او مباركة عمل مقاوم.
وبين الرسائل الثلاث رسالة خاصة بأصحاب "هبة الصبار" بان الشعب الفلسطيني "ولادة لأصحاب الحق"، وان أية ماكينة قد عملت على مسح الذاكرة أو تشويهها عليها أن تعيد حساباتها، وهذا ما يتبين لمن يشاهد مواقع المواجهة، أو يتفحص قوائم الشهداء والجرحى والمعتقلين، فأكبرهم لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره.
وفي مقابل "هبة الصبار" هناك دولة الاحتلال ومن يرعاها والتي يتضح أنهم وعلى مدار العقدين الماضيين من المفاوضات، قد فهموا بشكل خاطئ حاجتنا ورغبتنا بتحقيق السلام، فلجأوا الى قانون السوق، الذي يرفع فيه التاجر الثمن أضعاف، عندما يرى تلهف الزبون على السلعة.
وللسائلين عن شعار "هبة الصبار"، الذي لم يتم الاعلان عنه ببيان كما هو معتاد، فانه لا يحتاج لقراءة عميقة، او تحليل يحتاج لندوات وتقدير موقف من اهل السياسة، فقد نطقت الهبة بان المطلوب ليس تحسين شروط حياة، بل آن لهذا الاحتلال أن يرحل.
واليوم وبعد عشرين عاما من المفاوضات، أخبرنا عنها صائب عريقات أنها فشلت، مطلوب منا اليوم اللجوء الى "قانون السوق الذهبي" بألا نعرض شيئا من بنات أفكارنا، ولنسمع من المجتمع الدولي ماذا سيعرض علينا، ودولة الاحتلال ماذا ستقدم، بعد أن لم نتقن "لعبة السوق" القائمة على فكرة بان من يعرض أوراقه في البداية يخسر، وآن لنا اليوم أن نتعلم من خسارتنا، لنستعيد ما خسرناه.
وأيا كان شكل المقاومة في "هبة الصبار" فان الحفاظ على شعبيتها شرط لاستمرارها، ولضمان نجاحها في تحقيق المأمول منها، ولتعرية دولة الاحتلال وسياساتها أمام العالم، ولفضح ما ترتكتبه من فظائع بحق شعب أعزل يسعى للخلاص بمقاومة كفلتها القوانين الدولية، فيما يسعى الاحتلال دوما لتوريطنا في مواجهة مسلحة غير محسوبة تقدم له ذريعة للانقضاض علينا، وهذا ما يتطلب تشكيل جبهة وطنية واسعة تضع ضيق الحزبية والفصائلية خلف ظهرها.
وسؤال أخير: اضعف الإيمان، هل من خلية أزمة، للإدارة والتوجيه، أم أن الوقت لم يحن بعد؟