هدنة تحت الطاولة - حسن سليم
تساءل الشارع الفلسطيني منذ بداية الهبة الجماهيرية في القدس والضفة، ومع تصاعد قمع دولة الاحتلال، عن المقاومة من غزة لإسناد الهبة وتخفيف حدة الضغط عليها، اعتماداً على تطمين طالما أطلقته سلطة حماس بالرد على أي مساس يطال المقدسات أو أهل الضفة – هكذا ادعت – وجاء الوقت للتحقق من صحة ما قيل، وللتأكد مما تم نفيه حول هدنة معقودة من تحت الطاولة بينها وبين دولة الاحتلال.
السكون على الحدود بين قطاع غزة ودولة الاحتلال، في الأسبوع الأول من الهبة كان محل استغراب الكثيرين، قبل أن يفك العقدة ويفسر هذا السكون المحلل العسكري في القناة الثانية الإسرائيلية روني دانييل بان حركة حماس تظهر التهديد ضد إسرائيل عبر شاشات التلفزيون وأمام العالم، ولكنها من "تحت السجادة" ترسل رسائل تطمين لإسرائيل بأنها تحاول منع وصول الغزيين الى الجدار الشائك والحدود كما أنها لا ترغب بأي تصعيد فعلي، وقبل ان تنفك عقد لسان الحركة وتعلن ان لا تصعيد ولا رد من طرفنا.
بقاء الهدوء على جبهة القطاع وحدوده مع إسرائيل لم يكن سهلا، بسبب الضغط الشعبي الراغب بالمسانده للهبة، حتى قررت سلطة حماس بعد اجتماع لقيادتها "التنفيس" للغاضبين تجاه ما تعيشه الضفة والقدس، مع إبقائه شعبيا بالحجارة، ومحظور فيه استخدام الرصاص. وبذلك تكون حماس قد ضربت أربعة عصافير بحجر واحد، أولها بانها أرضت مناصريها في الضفة المحرجين من إدارتها للظهر مما يجري في الضفة، وثانيها بان تكون قد امتصت الغضبة من أهل القطاع، والثالث بأن تلوح للسلطة الوطنية بأنها طرف في المعركة وبإمكانها تحويلها الى غزة ومن ثم إدارتها من هناك، فيما العصفور الرابع يتمثل بتأكيدها لإسرائيل على الالتزام بعدم السماح للعمل المسلح للانطلاق من قطاع غزة، وبأن ما يجري إنما هو نموذج جديد يستوعب الحالة الراهنة ويحتوي ردة الفعل الغاضبة.
فيما الواقع والمنطق يشيران الى ان حماس غير معنية بأي تصعيد في غزة، أو من غزة، فيما لا تمانع من حدوثه في الضفة بشرط ان لا يحمل بصمتها، حتى وان قررت دعمه، وذلك حفاظا منها على ما التزمت به في الهدنة التي تواريها، ورغبة في خلط الاوراق في الضفة.
"التنفيسة" من قطاع غزة كان قد سبقها كما رافقها التوجيه من قيادة حماس بالحث على العقلانية في المقاومة، وعدم استخدام السلاح وعسكرة الهبة، وفق ما ورد على لسان نائب رئيس مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق، وما نشره على صفحته الشخصية، وتداولتها وسائل الإعلام مبينا أن إطلاق الصواريخ سيحرف التوجه والانتفاضة إلى ميدان آخر، وان معركة الصواريخ ستظهر الفلسطينيين بأنهم المعتدون وبأن الإسرائيليين هم الأبرياء. ويتفق معه الكاتب الصحفي الحمساوي مصطفى الصواف الذي أشاد بتعامل المقاومة بحكمة مع الاحتلال الذي يسعى لجر القطاع لمواجهة عسكرية لحرف الأنظار عما يجري بالضفة، وتلك لغة غير متداولة في السابق بهذه العلنية، فيما سبقه احمد يوسف وكيل وزارة الخارجيّة السابق في حكومة حماس والمستشار السياسي السابق لإسماعيل هنية الذي قال في حوار مع "فلسطين اليوم" نشر يوم 23 تموز الماضي بأن حماس تبذل جهوداً حثيثة لتجنيب قطاع غزّة ويلات حرب جديدة مع إسرائيل.
في الضفة والقدس التي تعيش هبة منذ مطلع تشرين الاول الحالي جاء سلوك الأجهزة الأمنية وموقف السلطة الوطنية ذا طابع جديد، تمثل بعدم منع المتظاهرين من الاشتباك مع جنود الاحتلال مع التأكيد على عدم استخدام السلاح رغبة بالحفاظ على الشكل الشعبي، وحثا على سلمية الهبة.
دعوات قيادة السلطة الوطنية لم تتوقف عند عدم الانجرار للموت المجاني للشباب الفلسطيني، وعدم الوقوع في فخ دولة الاحتلال الساعية للتصعيد لتوفير ذريعة تمكنها من الانقضاض على السلطة والمواطنين العزل، بحجة الدفاع عن النفس، وهي التي تترقب اي ظهور لعمل مسلح يجر الضفة الى ساحة المجهول، والى معركة مفتوحة تستعرض فيها عضلاتها لتحسين صورتها التي اهتزت امام مواطنيها الذين شككوا في مقدرتها على حمايتهم من اعمال فردية، وإن كانت غير معنية بذلك الان، الا انها تراكم الذرائع للانقضاض على شعبنا عندما يلزمها ذلك.
موقف دولة الاحتلال المرتبك بالإضافة الى تغوله باستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين الغاضبين من تدنيسه للمقدسات ولجرائم قطعان المغتصبين اليومية، تمثل بإرسال رسائل التهديد للسلطة، باجتياحها للمدن الفلسطينية" لضبط الأمور" كما تقول، رافقها تهديدات لشخص الرئيس ابو مازن على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الذي اتهمه بالتحريض، وان ما يجري من أحداث هي نتيجة طبيعية لتحريضه، فيما دعا وزير جيش الاحتلال موشي يعلون للتخلص من شخص الرئيس بسبب خطابه التحريضي، ولعدم تدخله لمنع الهبة، أما رئيس حزب البيت اليهودي وزير التربية والتعليم بحكومة الاحتلال، نفتالي بينت، فقد حمل الرئيس أبو مازن المسؤولية عن دماء اليهود التي تسفك، وبأنه من أعلن الحرب على إسرائيل، رغم ان خطاب الرئيس لم يأت عليه جديد فيما يتعلق بالموقف من المقاومة ورؤيته لإنهاء الصراع.
تهديدات دولة الاحتلال للسلطة الوطنية ورئيسها، رافقها رسالة حماس، التي اكدت بدورها على الالتزام بالهدنة، بعد افتضاح تعاملها بوجهين احدهما ادعاؤها بالاستمرار باعتماد نهج المقاومة، وأخرى تطمينية بان الهدنة قائمة مع دولة الاحتلال، وبأنه لا خوف على امن الحدود معها، بعد مطالبة دولة الاحتلال لها بأن تكون أكثر التزاما وفقا لما التزمت به في الاتفاق غير المعلن.
ان دولة الاحتلال التي تلهث وراء هدوء يعزز استقرارها، والأمن لعصابات المغتصبين في الضفة، وتعمل على وقف الضرر الذي لحق بصورتها، والتدهور لسمعتها لدى العالم الذي أصبح يشعر بالتقزز من تصرفاتها، تبحث الان عما يخرجها من مأزقها في مواجهة الهبة الشعبية.
ويبقى السؤال في ظل التوافق، وفق ما هو معلن بتبني المقاومة العاقلة، ما الذي يمنع عقلنة السياسة لحماس، لتجنيب شعبنا الغرق في بحر دولة عطشى للدماء؟