أبو مازن.. خطاب الضمير - موفق مطر
خطاب مبادئ وقواعد ومعادلات والضلع الرابع فيه الحق، بهذا يمكن وصف خطاب الرئيس ابو مازن امام مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة امس الأربعاء.
خطاب قائد وزعيم انساني متحرر من مفردات العدائية والدم و(السيف للأبد)، منسجم مع مقومات الشخصية القيادية السياسية النبيلة، يسمو بلغة القادة لتلامس لغة الفلاسفة والحكماء، لذا كان الاحترام والتعظيم لفلسطين ورئيس شعبها الذي شاهدناه من ممثلي دول العالم بالوقوف والتصفيق لمدة قياسية.
حقوق الانسان تعني، تأمين السلام الفردي والجمعي له، سلام بمعيار ووجه واحد، ليحيا الانسان اينما كان بسلام، فالأصل ان خدمة الانسان تعني ضمان حقوقه التي تمكنه من الحياة بسلام مع نفسه ومع الآخر، وتحريره من الظلم الباعث اصلا على اليأس، سواء كان فرديا او جمعيا او شعبيا، لذا استطاع الرئيس اختراق وجدان من نفترض ايمانهم بشرائع الانسانية الجديدة (حقوق الانسان)، وانار لهم بنبراس الحق، الدرب التي ستمكنهم فعلا من خدمة السلام، أي خدمة عقيدة الانسانية الجديدة والانتصار لها فخاطبهم قائلا: "لا تدفعوا شعبي للمزيد من اليأس كونوا اخوة له في الانسانية، وعوناً له لإحقاق حقوقه، فان فعلتم فإنكم بذلك تخدمون السلام".
ان لم تطفئ النار بالماء، فإنها ستأكل الأخضر بعد اليابس، ان لم تق جسدك فان الأمراض ستفتك بك، ان لم تك مسالما، متحررا من العدائية والعنصرية، فانك ستواجه سبلا غير متوقعة من المظلومين لانتزاع حريتهم، فالسلام يساوي الحرية، الكرامة، السيادة، الحقوق، وهذا ما اكده الرئيس في خطابه بقوله: "إن لم ينعم شعبنا بالحرية والكرامة والسيادة التامة على ترابه الوطني، وفضائه ومياهه وحدوده، فلن ينعم أحد بالسلام والأمن والاستقرار" اذن هي الصيغة الأخرى للتمسك بالمبادئ والقيم النضالية، والصياغة العصرية لمقولة قائد حركة التحرر الوطنية الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات: "السلم يبدأ من فلسطين والحرب تندلع من فلسطين".. فلسطين الحرة، دولة الفلسطينيين المستقلة، ليست ثمنا ولا مكافأة وانما حق تاريخي وطبيعي، والدفاع عنه او انتزاعه عندما يتعرض لسرقة تاريخية كبرى ليس تعليما او دروسا نتلقاها وحسب، بل دماء تجري في عروقنا، تغذي ادمغتنا بمكونات ثقافية رضعناها من حليب امهاتنا اللواتي نبتن من تربة هذه الأرض الطيبة المقدسة، والانسان الوفي لا يخذل امه الطبيعية (الأرض) وانما يدافع عنها من اجل السلام والخير والحياة الكريمة لها، فالأم تعرف أبناءها وتحبهم، وهم يحبونها بلا حدود من هنا قال الرئيس: "أمهاتنا ربيننا منذ الطفولة على الصمود والكرامة، سنستمر في دفاعنا عن شعبنا وقضيتنا بكل الوسائل السلمية والقانونية والسياسية".
ما كنت انتظره من الرئيس الانسان محمود عباس قد تجلى بأبهى صوره، فيما نسمعه يخاطب ضمائر المجتمع الاسرائيلي عموما، واصحاب الفكر والرأي والسياسة خصوصا، سمعناه وهو يقدم لهم علاجا واقعيا، حقيقيا، للشفاء من وباء (النظام الصهيوني اليهودي) العنصري الاستيطاني الارهابي الذي حولهم بنظر العالم من ضحية الى جلاد، فالرئيس الذي وضع حرية شعبه واستقلاله وسيادته في المقام الأول من اهداف نضاله، لم يغفل عن فكرة تحرير المجتمع الاسرائيلي أيضا من سياسة ومفاهيم وجرائم قادته، فقدم لهم معادلة بسيطة، ليستطيع كل فرد في اسرائيل قراءتها وفهمها والعمل على تطبيقها، فالرئيس الفلسطيني الذي حمل امانة ارواح مئات آلاف الضحايا الفلسطينيين، نراه وقد حمل امانة تحرير الاسرائيليين من وهم التفوق والسيطرة بقوة الاحتلال وارهاب المستوطنين، وهذا ادراك منه بأن السلام القائم على الاقرار والاقتناع بحق الشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين، وعاصمته القدس خير وابقى، لذا خاطبهم: "أتوجه بدعوة صادقة لأبناء الشعب الإسرائيلي، وأدعوهم لسلام قائم على الحق والعدل، الذي يضمن الأمن والاستقرار للجميع، بما يكفل لشعبي حقوقه وحريته وكرامته الإنسانية، وأقول لأصحاب الفكر والرأي والساسة في المجتمع الإسرائيلي، بأن السلام في المتناول، والمعادلة بسيطة، وهي أن تقوم دولتكم بإنهاء احتلالها لأرضنا، وأن تتوقف آلة البطش العسكرية عن التنكيل بشعبنا، ووضع حد لهذا الاستيطان الاستعماري وللممارسات الإجرامية للمستوطنين، وبذلك سننعم جميعاً بالسلام والأمن والاستقرار". فهل من خارطة طريق اسهل واقصر واوضح من هذه المعادلة التي يتجلى فيها النبل في الصراع ؟!.
يعلم قائد حركة التحرر الفلسطينية ورئيس الشعب الفلسطيني، ان الشباب هم دينامو أي ثورة، ومستقبلها، وان آمالهم تكبر باطراد كلما كان السلام اقرب اليهم، وانهم لا يعجزون عن ابداع الوسائل لانتزاع حريتهم، فشباب اليوم هم الأكثر قدرة على التواصل رغم تنوع ثقافتهم، واعراقهم، وجنسياتهم، وسياسات بلدانهم المتناقضة، بإمكانهم التأثير، ولكن بالاتجاه الصحيح، حيث يجب خدمة السلام والانتصار للإخوة في الانسانية.
قال الرئيس الحكيم ابو مازن: "لا شيء أسوأ من اليأس وانعدام الأمل وعدم الثقة في الحاضر والمستقبل، إن شبابنا أيها الجيران، يطمحون إلى العيش في ظل أجواء من الحرية والكرامة ليبنوا مستقبلهم وحياتهم الإنسانية في ظل بيئة آمنة ومواتية، فهم تماماً مثل أبنائكم، لهم آمالهم وأحلامهم بغد مستقر وآمن، فاحتلالكم لأرضنا هو منتهى الظلم، وهو سبب كل المآسي التي يعيشها شعبنا، وهو الذي يُبقي منطقتنا وشعوبها تدور في هذه الدوامة من العنف، فنحن لا نريد العنف، ولكن استمرار الاحتلال يؤدي إلى توسيع دائرة العنف والفوضى والتطرف وإراقة الدماء، وهذا ما لا نريده "فهل يسمع شباب اسرائيل هذا النداء، وهل يسمع الآباء والامهات في اسرائيل صوت الضمير الفلسطيني وهو يخاطبهم بهذه العقلانية والنبل والحكمة؟!. ليتهم يسمعون ولا يسمحون للكذابين المتغطرسين المنفوخين بعقدة العنصرية، المستوطنين، جنرالات الحرب والمتكسبين منها، والمافيات المتاجرة بدماء وأمن اليهود في العالم، على رأسهم المشتغلون على تحويل الصراع الى ديني، عليهم ألا يسمحوا لهؤلاء ان يأخذوهم الى مآسٍ اخرى، فالسلام وحده هو الفسحة الفريدة الوحيدة للعيش بأمان، اما الاحتلال فإنه الوصفة السحرية للعنف واراقة الدماء التي لا نريد رؤيتها تسيل في الشوارع ابدا".