مهزلة التفاهمات - غازي السعدي
عندما أعلن وزير الخارجية الأميركية "جون كيري"، أنه توصل إلى تهدئة وتفاهمات "أولية"، بخصوص المسجد الأقصى، أعلن "نتنياهو"، ومن أجل إنقاذ نفسه، التزم أمامه بعدم قيام اليهود بالصلاة في الحرم الشريف، مع أنهم ما يزالون يصلون فيه، كما وافق على نصب كاميرات لتصوير ما يجري في الحرم، على مدى (24) ساعة، لمنع تغيير الوضع الراهن، وأن التفاهمات تسمح للمسلمين فقط الصلاة في الحرم، لكن باستطاعة اليهود مواصلة دخول الحرم، والتزام "نتنياهو" بفرض سياسة الوضع الراهن، التي تنص على أن المسلمين هم فقط الذين سيصلون في المسجد الأقصى، في حين أن غير المسلمين سيزورونه فقط، وأن ممثلي الأوقاف وممثلين عن إسرائيل سيجتمعون من أجل تهدئة الخواطر. بيان "كيري" يسجل لـ "نتنياهو" أنه منح اليهود الحق بدخول باحات الأقصى للزيارة، لأول مرة بصورة رسمية، يتعارض مع الوضع القائم، و"نتنياهو" يلعب بالألفاظ بادعائه الالتزام بالوضع القائم، فالملك "عبد الله الثاني"، باعتباره الوصي على المسجد الأقصى والأماكن المقدسة في القدس، لن يسمح لـ "نتنياهو" بهذا التلاعب، بعد أن أخل بالاتفاق الذي جرى قبل عدة أشهر في عمان، تحت رعاية الملك "عبد الله الثاني"، وبحضور كل من "كيري"، و"نتنياهو"، وكانت رسالة الملك لهذا المخادع، بعدم استقباله في عمان، بل أن "نتنياهو" في اجتماع لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، تطرق إلى تهديد الأردن هذه المرة بعدم الاكتفاء بسحب سفيره من تل-أبيب، بل ليذهب أبعد من ذلك، بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وهذا يسجل لجلالة الملك، ولدماء الشهداء المقدسيين وغير المقدسيين، من الجيل الجديد، وإلى كل المنتفضين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفلسطينيي الداخل، الذين أرغموا "نتنياهو" على الامتثال ولو شكلياً فالعبرة أن إسرائيل لا تستجيب إلا إذا كان احتلالها مكلفاً. إن المشكلة التي تقف أمامنا، أن "نتنياهو" يرفض تحديد مفهوم الوضع الراهن في الأقصى خطياً، كما أن تفاهمات "كيري" يجب صياغتها في وثيقة موقعة من قبله ومن قبل "نتنياهو"، وإلا فإن هذا المخادع سيجد الطريق في المستقبل للتخلص من هذه التفاهمات، فالوضع القائم في الأقصى، يرجع إلى تاريخ حكم الدولة العثمانية لفلسطين، تلاها الحكم البريطاني، ثم الإدارة الأردنية، الذي يقضي بإدارة الأقصى من قبل دائرة الأوقاف، وعدم وجود قوات عسكرية إسرائيلية أو شرطة داخل باحاته، وحق الأوقاف بإجراء عمليات الصيانة، وإعادة مفاتيح أبوابه إلى الأوقاف المخولة بالسماح وعدم السماح بزيارته، والالتزام الكامل لوصاية الأردن على الأماكن المقدسة، كما أن الوضع الراهن كان معمول به بعد احتلال إسرائيل عام 1967، وحتى عام (2000) حين اقتحم "أرئيل شارون" وعصاباته باحات الأقصى، فإذا التزمت إسرائيل بذلك خطياً، تكون الحاجة للكاميرات ثانوية، إذ أن الكاميرات التي وضعتها إسرائيل في البلدة القديمة من القدس، كانت بهدف الرقابة والتجسس، ويخشى المقدسيون أن وضع الكاميرات في باحات الأقصى، ستستفيد منه إسرائيل للتجسس أيضاً. رئيس مجلس مديري أوقاف القدس، الشيخ "عبد العظيم سلهب" عقب على تفاهمات "كيري"، بأن الهدوء لن يعود، طالما لن يمنع اليهود من الصلاة في باحات الأقصى، وأنه لا يوجد لديه أية مشكلة مع الزوار، لكن ليس مع أولئك الذين يأتون للصلاة ثلاث مرات يومياً، أنهم ليسوا زواراً، ودون ذلك لن يحل الهدوء، والأهم من ذلك أن تشمل حلاً سياسياً جذرياً للقضية الفلسطينية، التي كانت وراء إثارة الشارع الفلسطيني، فإنها تحتاج إلى معالجة جوهرية، ودون ذلك فإن الهبة الشعبية ستستمر، وأن المطلوب آنياً إطلاق سراح المعتقلين الذين اعتقلوا أثناء هذه الهبة، وإعادة جثامين الشهداء، ورفع الحواجز، ووقف حملات التفتيش، ووقف إعدام الفلسطينيين وقتلهم بالرصاص الحي، والتوقف عن هدم البيوت، هذا إذا كانت إسرائيل تريد وقف الهبة الشعبية. إن الشارع الإسرائيلي في حالة من الهلع، يتطلب تغليظ الضغط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال، فجريدة "هآرتس 25-10-2015" كتبت عن هستيريا الشارع الإسرائيلي، ووصفته بأنه أخطر من عمليات السكاكين نفسها، وقالت: أن هذه الهستيريا تشكل خطراً على أمن إسرائيل أكثر من حالات الطعن بالسكاكين، بينما أكد "نتنياهو" في جلسة حكومته بتاريخ "25-10-2015"، أن إدارة الحرم القدسي الذي يسميه بجبل الهيكل، ستبقى كما هي عليه الآن، ولا نعرف ماذا يعني بالآن، إذا كان هذا صحيحاً، فلماذا هذه التفاهمات؟ وتأكيده بأن زيارات اليهود للحرم ستبقى كما هي ولن يحدث أي تغيير، وأن وضع الكاميرات حسب "نتنياهو" يحقق هدفاً أمنياً، يمكن الشرطة الإسرائيلية من كشف مصدر الاستفزازات، فجاء الرد من قبل صحيفة "الأوبزيرفر" البريطانية التي وصفت "نتنياهو" بالدجال وأن لديه القدرة على الكذب، ثم يصدق ما يكذبه، فقد كان يرغب بجعل التحريض محور القضية، حتى يقول للعالم أن التحريض الفلسطيني هو المسؤول عن موجة العنف، متجاهلاً الصلة بين الغضب الفلسطيني، وسلوك إسرائيل واحتلالها حسب الصحيفة البريطانية، أما نائبة وزير الخارجية "تسيبي حوطوبيلي" فقد أعلنت أن حلمها أن ترى علم إسرائيل يرفرف فوق قبة الصخرة، وأن يسمح لليهود بالصلاة في الحرم القدسي، وهذه هي حقيقة نوايا وتوجهات "نتنياهو" التي قد تكون مجمدة حالياً، لتأتي القناة التلفزيونية الثانية لتبث بتاريخ "28-10-2015" بياناً لمنظمة يهودية تحمل اسم "عائدون إلى الجبل" أي إلى الأقصى، وهذه المنظمة معروفة باقتحاماتها المتكررة للأقصى، فقد أعلنت عن تخصيص مبلغ (2000) شيكل، لكل يهودي يتم اعتقاله داخل الأقصى على خلفية الصلاة، والدفاع عنه، ليقوم "كيري" الذي له تجربة مع "نتنياهو" المخادع، ويحاول الترويج لتعهداته، وكأنها تعهدات تاريخية، حققها بمساعيه الحميدة، رغم أنها تعهدات شفوية، وغير مكتوبة، وتقرأ هذه التفاهمات على لسان "كيري"، بأن "نتنياهو" تعهد بأن تكون الصلاة في الأقصى، مسموح بها للمسلمين فقط، وكأن صلاة المسلمين في الأقصى بحاجة لموافقة "نتنياهو"، إنها مهزلة. الشيخ "عكرمة صبري" مفتي القدس وفلسطين سابقاً، أعرب عن تخوفه من هذا الاتفاق، مؤكداً أن المحافظة على الوضع القائم يحتاج إلى توضيح، موضحاً بأن "نتنياهو" يمارس الخداع والتضليل، إذ أنه يعتبر الوضع القائم، هو الذي يجري حالياً، كذلك التخوف من بند السياحة، الذي ينص حسب التفاهمات على السماح لغير المسلمين بدخول المسجد الأقصى، فالاحتلال سيعطي لهذا النص بمنح اليهود من مستوطنين وغير مستوطنين الحرية باقتحام الأقصى، بينما يجب تنسيق الزيارات والسياحة مع إدارة الأوقاف، وليس من خلال قرار إسرائيلي، إذ أن السياحة خاضعة لإدارة الأوقاف، والدخول بتذاكر، ومراعاة قدسية الأقصى، واحتشام السياح بملابسهم، وعدم القيام بتصرفات أو حركات تخدش الحياء، وتمس بقدسية الأقصى، إضافة إلى منع الدخول بأي نوع من السلاح. تفاصيل التفاهمات حسب جريدة "يديعوت احرونوت 25-10-2015" أن إسرائيل تقبل قبولاً تاماً الدور الخاص للأردن كمسؤول يحتفظ بحق الرعاية للمسجد الأقصى، وإسرائيل ستواصل اعتبار المسلمين هم الذين سيصلون في الأقصى، في حين أن غير المسلمين سيزورونه فقط، وأنه لا توجد لدى إسرائيل أية نوايا لتقسيم المسجد الأقصى، وهي ترفض اي محاولة لقول غير ذلك، وأنها ترحب بالتعاون المتزايد بينها وبين السلطات الأردنية، وأن يبدي الزوار والمصلون احتراماً وضبطاً للنفس، وأن "نتنياهو" وافق على اقتراح الملك "عبد الله الثاني" للرقابة بكاميرات الحماية، طيلة الساعات الأربع والعشرين يومياً على المسجد الأقصى، وجاء في جريدة "يديعوت احرونوت 25-10-2015" بياناً لـ "نتنياهو"، يركز فيه على الاعتراف بأهمية جبل الهيكل لجميع شعوب الأديان الثلاثة الموحدة، اليهود، المسلمين، المسيحيين، وأن إسرائيل تصادق من جديد، على التفاهمات بالحفاظ على الوضع الراهن، في منطقة المسجد الأقصى قولاً وفعلاً، لكن إعطاء اسم جبل الهيكل من قبل "نتنياهو" وغيره، للمسجد الأقصى كما جاء في بيانه، هو إخلال في مفهوم الوضع القائم. القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي "26-10-2015"، أوردت المطالبة الأربعة للرئيس الفلسطيني "محمود عباس" لإنهاء الأزمة، ومدخل للدخول في عملية سياسية مع إسرائيل وهي: إرسال مراقبين دوليين إلى المسجد الأقصى، عودة الأوضاع في الأقصى إلى ما كانت عليه قبل عام (2000) ووقف دخول اليهود إليه، ووقف البناء الاستيطاني، والإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى المتفق عليها، فإن الإنجازات التي حققها الفلسطينيون في هذه الهبة، كان توحيد الشعب الفلسطيني في كافة أراضي فلسطين، والعودة إلى الكفاح ضد الاحتلال، وبث العنصر الديني في تعزيز الصراع، واستخدام وسائل قتالية جديدة، ألا وهي سلاح السكاكين، في مواجهة صلف المستوطنين، فهذه الهبة أو الانتفاضة الشعبية التي يخوضها الجيل الشاب ضد الاحتلال، دون توجيه من قبل قيادات أو فصائل فلسطينية، جاءت تلقائياً. وأخيراً .. فإنني لا أعرف إذا كانت هذه التفاهمات التي تم التوصل إليها، ستحترم من قبل إسرائيل، أم أنها ستجد الفرصة المواتية للإخلال بها، مع أنني أشكك بنجاحها، وأن تحولها من شكلها السياسي إلى صراع ديني، سيجعل من الصعب إنهاء أعمال العنف، فتحقيق الأمن لا يمكن إلا من خلال الحل السياسي، الذي تتهرب منه إسرائيل، وأنه لا يمكن هزيمة شعب بكامله، يناضل من أجل حقوقه، ولم يترك الاحتلال له ما يخسره، من خلال المزيد من التشريعات الإسرائيلية العنصرية، فإن لم تطلق مبادرة سياسية تنهي الاحتلال، وتحقق الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني، ومع أهمية الأقصى، فإن القضية الأساسية أشمل.