قراءة لخيارات إسرائيل الواهمة.. وخياراتنا الممكنة- حسن سليم
واقع صعب يمر به شعبنا، وقيادته السياسية، تنحصر فيه الخيارات، وتجعل الاختيار من بينها مكلفا، حيث إن احلاها مر، ولا سيما ان نزيف الدم غير معلوم متى سيتوقف، في ظل المواجهة غير المتكافئة مع التغول الاسرائيلي، الذي لم يعد يكترث بأي قوانين أو اعراف او مواثيق دولية، ولا يلتزم بما وقع من اتفاقات، وبل ويتصرف كدولة فوق القانون.
فلسطينيا، وعلى وجه الخصوص على المستوى الشعبي، وميدانيا، فقد اصبح واضحا ان التوجه والقرار هو السير حتى النهاية في طريق الخلاص، غير آبه بالثمن الذي يدفعه، ولن يعد يقتنع بأي حلول جزئية، بل لم يعد مقبولا بغير اندحار الاحتلال واقامة الدولة، بتأييد الموقف الرسمي لها على لسان الرئيس ابو مازن صريحا، عندما قال: "لنستمر".
اليوم وبعد ان قفز عدد الشهداء عن حاجز المئة، لن يكون من الممكن اقناع الشباب المنتفض وقف هبته بأي ثمن، وكون الهبة غير منظمة، ولا تعمل بأمرة فرد او تنظيم، ولم تندلع بأمر من أحد، فان الاقناع لوقفها اذا ما تم تقديم عرض سياسي يجب ان يكون الحوار شاملا بشأنها، والعرض يجب أن يكون مقنعا ومتناسبا مع التضحيات التي سقطت، وهذا ما يجعل القيادة السياسية في موقف لا تُحسد عليه، بمطالبتها بوضع حد للهبة الشعبية وبايقافها، وهي التي تعلم، وتسمع كل يوم من الوسطاء الدوليين، ان الحديث لا يجري عن حلول سياسية، بل عن حلول غبية وفقا لقاموس السياسة، وتسولا وفقا لعلم الاقتصاد، وان دولة الاحتلال قد تأخذها العزة بالاثم بمزيد من الاجرام، فيما المجتمع الدولي لن يعلو موقفه عن قلق على لسان بان كي مون، وبالمقابل يرتفع سقف المطالب من قبل المنتفضين، في ظل استمرار النزيف اليومي لدماء الشهداء.
واليوم دولة الاحتلال تستغل الانشغال الدولي بما يجري في المنطقة والعالم عموما، وتراخيه تجاه ما تقوم به هي من جرائم، كما تستغل حالة المزاج الشعبي الاسرائيلي الداعم لسياستها، وتستعد للسيطرة الكاملة على الارض الفلسطينية، لتفريغها من ساكنيها، او على الاقل تطويقهم بالمزيد من الجدران، كما ستفعل من بناء لجدار جديد يفصل بين الخليل ومغتصبة "كريات جات"، بعد توصيه من وزير حرب الاحتلال موشي يعالون، ومصادقة الكنسيت عليه الاربعاء الماضي، وكأن الانتفاضات الفلسطينية موعودة ومتلازمة مع بناء الجدران، وهذا ما حدث بعد عملية السور الواقي، واجتياح الضفة الغربية، بعد الانتفاضة الثانية.
وبات واضحا أيضا أن دولة الاحتلال تسعى لتقويض السلطة، لكن بما لا يزيلها عن الوجود، بل لجعلها رجلا مريضا يرجو الرعاية والدواء، وهي من تتحكم فيها، ولكن مصلحتها ببقاء السلطة الوطنية ليس كما يعتقد البعض بانها لحمايتها، فذلك وهم وخيال، ومبالغة بل جنون في وصف امكانيات السلطة الوطنية شبه منزوعة السلاح، في ظل وجود دولة احتلال كاسرائيل وهي المتفوقة في المنطقة بامتلاكها من السلاح والتكنولوجيا ما يمكنها من السيطرة الامنية حتى على الدول المجاورة، او تجنب خطرها، سواء كان الامر يتعلق بقدراتها الدفاعية الذاتية، او بقدرتها على الهجوم، او من خلال الدعم والرعاية الذي تحظى به من ربيبتها اميركا، او بحكم اخلاص أصدقائها من بعض العرب، لكن ما تريده اسرائيل من وجود السلطة هو التبيان للعالم انها دولة غير محتلة، بدليل وجود كيان فلسطيني، يحكم شعبه، بغض النظر عن شكل سيادته وصلاحيته على الارض.
وشهدت الحكومة الاسرائيلية الاسبوع الماضي نقاشات حادة بشأن من يعتقد ان انهيار السلطة الوطنية من شأنه أن يخدم مصالحها، ولذلك ليس هناك حاجة لمنع حصول مثل هذا السيناريو، والمطلوب الاستعداد لهذه الامكانية، واخذ هذا الموقف الاسرائيلي بهذا الشأن يتسع النقاش حوله بشكل جدي في جلسة بادر الى عقدها نتنياهو يوم الاربعاء الماضي في أعقاب فشل زيارة وزير الخارجية الأميركية، جون كيري الاخيرة للمنطقة، ويأتي هذا النقاش في اروقة الحكومة الاسرائيلية في اعقاب تخوفها من التوجه الفلسطيني بخطوات جديدة في الساحة الدولية كنتيجة لفشل جهود كيري في بلورة رزمة إجراءات إسرائيلية لتهدئة الوضع، وإمكانية الدفع بقرار في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة،، يدعو إلى توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني في "دولة فلسطين المحتلة "، فيما حذر وزراء اخرون في حكومة الاحتلال من إمكانية انهيار السلطة الوطنية، كما حذروا من التبعات الأمنية والمدنية لهذه الإمكانية، ولذلك يجب ألا تعمل إسرائيل على انهيار السلطة.
الموقف الاسرائيلي سواء صدق او كان تهديدا مبطنا، يحتاج فلسطينيا لتغيير نهج التفاوض او التعاطي مع سياستها بالاسلوب القديم، الذي اوصلنا في بعض الاحيان التصديق باننا سنحصل على ما نريد من استقلال دون ضغط يوصلها لليقين بأن احتلالها للارض الفلسطينية باهظ الثمن، وان رحيلها هو الحل للخلاص من خسائرها سواء السياسية او الاقتصادية او حتى البشرية.
ولكن الحقيقة ان ما تريده دولة الاحتلال من الاعلان عن تلك الخيارات، ليس جدية تنفيذها، بل التهيئة لتشريع الإجراءات التي ستتخذها من طرف واحد في المستقبل القريب، سوء ما يتعلق باستكمال مشروعها الاستيطاني الذي حاولت الحصول على مباركة علنية له من جون كيري، أو البدء بضم أراض جديدة غير مأهولة بالسكان، والتخلي عن مناطق مكتظة بالسكان تحت راية مبادرات حسن نية، وذلك في إطار سعيها لهندسة الحدود وترسيمها من طرف واحد، استباقا لأي اتفاق مستقبلي، وجعله امراً واقعا ليس بالإمكان تغييره، يرافقها عزل القرى والبلدات التي يعتبرها الاحتلال المناطق الأكثر سخونة بالمقاومة، عقابا لها، ولتأليب سكانها على المقاومين، باعتبارهم سبباً في تلك المعاناة.
واستباقاً لتطورات الاحداث، وتحضيرا للمجتمع الاسرائيلي، فقد دعا نتنياهو الاسرائيليين منذ مطلع اندلاع الهبة الشعبية للتهيؤ بالعيش على حد السيف، مستغلا انحسار العقل الإسرائيلي في ثلاث نقاط، كما وصفها جدعون ليفي احد الصحفيين الإسرائيليين في محاضرة له في واشنطن، قبل أشهر، كانت حول دور اللوبي اليهودي وتأثيره في العلاقة الأميركية الإسرائيلية، والتي قال فيها بأن معظم اليهود ـ إن لم يكونوا كلهم. مقتنعون بمقولة "شعب الله المختار"، وبالطبع من يؤمن بهذه المقولة، سوف تكون له مصدر التحكم بسلوكه ورؤيته للآخَر، وهذا يبيح له أيضا أن يفعل ما يريد بخصمه دون حسيب آو رقيب، ولا سيما أن ما يفعله هو "بأمر من الله" وفق اعتقاده، وإذا ما صدق تفكيك جدعون ليفي للعقلية الإسرائيلية فان ما تقوم به دولة الاحتلال من قتل وتشريد واعتقال وتعذيب كلها أفعال مشروعة ومباركة من الرب وفق اعتقاهم، وبالتالي لا تجوز محاسبتهم عليها، مما سيفتح شهيتهم على فعل المزيد، أما فيما يتعلق بالمكون الثاني للعقل اليهودي وفق ما أورد ليفي، بإصرار البعض على إلصاق وصف الضحية بها، فيما تقوم باحتلال أرض وشعب آخر، وهذا ما يجعلهم يقدمون على اي فعل بذريعة الدفاع عن النفس، أما المكون الثالث، فيتمثل بالاستمرار برفض اعتراف أصحاب ذلك الاعتقاد أن الفلسطينيين بشر لهم حقوقهم السياسية، وهذا ما جعلهم يؤمنون أن الفلسطيني يستحق ما يتعرض له من تنكيل وعذابات يومية.
الا ان ما لم يصل بعد للعقلية الاسرائيلية أنه سواء كان الحجر والسكين سببا لبقاء حياة الإسرائيليين على حد السيف، أو أن بقاء الاحتلال هو السبب لاندلاع انتفاضة الحجر والسكين، فان الحقيقة الثابتة أن قيام دولة للفلسطينيين واستعادة حقوقهم المسلوبة تمثل الحل الاسهل، وهو الذي سيوفر الامن والاستقرار للاسرائيليين، بدلا من الاستمرار بالعيش على حد السيف.
ولمواجهة الخيارات الاسرائيلية فان ترتيب البيت الداخلي هو الدرجة الاولى للصعود لسلم المواجهة، اذا ما كان القرار هو استمرار المواجهة مع دولة الاحتلال، فعلى صعيد المحافل الدولية، فان السلطة الوطنية، وبعد انتزاعها لمقعد دولة غير عضو، بصفة مراقب، باعتراف 138 دولة مقابل 9 أصوات صوتت بـ (لا)، منهم الولايات المتحدة وإسرائيل، فانها تستطيع اكمال الهجوم السياسي والقانوني، على الاقل لتأمين وقف الهجوم الاسرائيلي على المركز القانوني للدولة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بطلب الحماية الدولية، الامر الذي يقلق دولة الاحتلال، ويفضح قبح جرائمها، في وقت تدعي تبجحا انها دولة الديمقراطية والقانون، أما ميدانيا وفيما يتعلق بادارة الهبة الشعبية، فان المطلوب توفير الحاضنة لها، والحفاظ على اعتمادها لوسائل كفاحية سلمية، لا يسقط فيها المزيد من الضحايا وعلى وجه الخصوص الاطفال، لتكون قادرة على الاستمرار لاطول فترة ممكنة، لحين تغير الواقع الدولي، وهذا ما سيبقي دولة الاحتلال في حالة استنزاف سياسي امام العالم، وارتباك أمني امام مواطنيها، لعلهم يكونون اداة ضغط ليس باتجاه التطرف، بل نحو حل ينهي الصراع، ويحقق السلام والامن لهم، الامر الذي لن يكون الا بتحققه لجيرانهم الفلسطينيين.
وأيا كانت خيارات دولة الاحتلال من طرف واحد، فان الفرصة الفلسطينية المتبقية هو الانتقال من مربع تلقي الضربات الى مربع الفعل، سواء باستعادة زمام المبادرة، واستكمال الهجوم السياسي والقانوني في المحافل الدولية الحقوقية، وباستمرار الفعل الشعبي الشامل، وعدم حصره في مناطق دون أخرى، بشكل يسهل على الاحتلال قمعها والسيطرة عليها.
ولعل من المفيد تذكير دولة الاحتلال أن إنكارها على الفلسطينيين حق الدولة، كون سيادتهم على الأرض ناقصة، باعتبارها إحدى أركان قيام الدولة وفق القانون الدولي، فان الحقيقة الغائبة عن الوعي الإسرائيلي انه في الحالة الفلسطينية مختلفة، حيث إن فلسطين اكبر من دولة، وان كانت لم تتحصل عليها حتى اليوم، بحكم استمرار نضال شعبها، وان القرار بالتضحية الكريمة تتوارثه الاجيال لاستمرار مواجهة احتلال غليظ العدوان، ما زال يرفض قراءة الحقيقة التي لن تزول، بأن الخلاص منه قادم.
بالأمس كان يظهر في نشرة الأخبار صورة لأحد الإخوة، فسألني عنه طفلي الذي لم يتجاوز السابعة من عمره، فأجبته بأنه سفير فلسطين، تلاه سؤاله: "شو يعني سفير؟"، فأجبته بأنه من يمثل فلسطين، واعتقدت حينها أن الأمر قد انتهى ووصلته الفكرة، ليرد: "فلسطين كبيرة، ما بقدر واحد يمثلها"، جواب يستحق إرساله لدولة الاحتلال التي تعتقد انها قادرة على غسل الوعي الفلسطيني وإقناعهم بالقبول باستلابها، وفي وقت لم يقبل الطفل ابن السابعة بفكرة أن يمثلها ايجابا شخص واحد من اهلها، لأنه يراها اكبر، فهل سيقبل باحتلالها من غريب لص؟
Hasan.media@yahoo.com