"يوسف سعيد عبد الحق"- عيسى عبد الحفيظ
عندما نعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الفريق أول عبد المنعم رياض قائد الجيش المصري في التاسع من آذار عام 1969، الذي استشهد في المواقع المتقدمة على قناة السويس أثناء ما عرف بحرب الاستنزاف، قرر القائد ياسر عرفات، الانتقام لاستشهاد رياض كضرورة قومية، فسير عدداً من الدوريات التي اجتازت النهر لتضرب في عمق الأرض المحتلة. كان يوسف عبد الحق أحد أفراد المجموعة التي سيرت لهذا الغرض، وحملت اسم المشير عبد المنعم رياض. انطلقت المجموعة بعتادها من بنادق الكلاشنكوف والقنابل اليدوية نحو الداخل، وصعدت منحدرات الغور الوعرة، حيث داهمها الصباح في أراضي قرية عقربا. احتوت المنطقة على بئر ماء لجمع مياه الأمطار، وبضع مغاور كان الرعاة يستعملونها مأوى لهم أثناء فترة الإقامة ويحتفظون فيها بأوان ومواقد وما قد يحتاجون إليه أثناء فترة الرعي.
يبدو أن آثارهم دلت عليهم أو بفعل واش، فبدأت المطاردة مع تباشير الصباح الأولى. وصلت طليعة القوة المطاردة إلى منطقة تسمى (الصير) واقتربت تتبع آثارهم إلى أن وصلوا إلى مسافة تعد بالأمتار من السلسلة الأولى للصير، وهنا فتحت أبواب الجحيم إذ كانت تعليمات قائد المجموعة عدم إطلاق النار قبل اقترابهم إلى مسافة عشرة أمتار. ستة منهم يتعاملون مع القوة المتقدمة بالرشاشات وإثنان يتعاملان بالقنابل اليدوية.
كانت النتيجة أن سقط فوراً ثلاثة من الضباط وستة من جنود الاحتلال، أما باقي القوة الاحتلالية فقد تراجعت إلى ما وراء الصخور. استمر الاشتباك ثلاث ساعات مع هذه القوة التي ساندتها الطائرات المروحية إلى حين وصول قوة تعزيز آلية مكونة من 250 جندياً. سكتت كل البنادق بعد نفاد الذخيرة. كان يوسف عبد الحق قد أطلق كل أعيرته النارية وبقي مستلقياً على بطنه كأنه في وضع الرماية حين وضع الجندي قدمه على ظهره وقال بعربية مكسرة "ضع البندقية فقد انتهت المعركة".
لاقت معركة (الصير) أصداءً واسعة على كل المستويات. فقد تسببت بمقتل تسعة ضباط وجنود من الاحتلال وفقاً لما ورد في أجهزة الإعلام الإسرائيلية نفسها.
وصفها زئيف شيف وهو أحد أهم المراسلين العسكريين في دولة الكيان الصهيوني، ليس فقط للعدد الكبير من الخسائر في صفوف الجيش، بل كون المعركة التي جرت حملت خصائص أثارت اهتمامه، فكما قال وجد المطاردون أنفسهم في وضع غير مناسب لإدارة الإشتباك، من حيث تضاريس الأرض وعدم تناسب القوى، وهو يرى أنه في حالة كهذه كان من المفترض عسكرياً أن تستسلم المجموعة دون قتال، وما عكس النتيجة هو طبيعة أفراد المجموعة وجاهزيتهم للقتال حتى الموت، وسيطرتهم على أعصابهم وانتظارهم طلائع قوة الجيش حتى المدى صفر، واستثمارهم لحالة الفوضى التي أصابت القوة العسكرية المهاجمة، وإعادة الانتشار في نطاق واسع ما وسع مدى الاشتباك وأخيراً إصرارهم على القتال حتى آخر طلقة. عربياً شكلت هذه العملية انتقاماً حقيقياً لاستشهاد عبد المنعم رياض، ورفعت من أسهم حركة فتح والشعب الفلسطيني خاصة أمام الرأي العام المصري.
كان يوسف هو الناجي الوحيد، بالإضافة إلى مقاتل آخر اسمه الغضبان. سقط يوسف في الأسر، اما الآخر فقد استغل معرفته بالمنطقة، وانسل بشكل عجيب واختلط بالأغنام، ساعدته راعية الأغنام من مجدل بني فاضل المجاورة والتي قادته بين الأغنام زاحفاً حتى أوصلته إلى قريتها وسلمته لمجموعة فدائية كانت تعمل بالقرية سراً.
كان سجن عسقلان باستقبال يوسف سعيد، بجلاديه الذين تمتلائ قلوبهم بالحقد الأعمى ضد كل ما هو عربي وفلسطيني. لكن الرجال أمثال يوسف لم يتراجعوا أمام السجان مهما بلغت شدة بطشه، ولم يسجل على يوسف طيلة فترة سجنه التي تقارب العشرين عاماً لحظة تراجع واحدة.
أطلق سراحه عام 1985 ضمن صفقة التبادل وعاد ليكمل مشواره النضالي، لكن شاءت الأقدار أن يقضي على حاجز حوارة وهو يجرجر حقيبته الثقيلة بعد أن كده التعب.