"أبو إياد عملاق فتح"- عيسى عبد الحفيظ
"سيكون لنا ذات يوم وطن". قالها أبو اياد ورحل، بعد ثلاثة عقود من النضال والكفاح لابراز الشخصية الفلسطينية المستقلة التي حاول الكثيرون سرقتها وتدجينها لترضى بمصيرها كحفنة من اللاجئين على اعتاب وكالة الغوث الدولية.
لم يكن صلاح خلف (أبو اياد) الشهيد الأول، ولن يكون الأخير، لكنه واحد من الرموز النضالية التي لعبت دوراً أساسياً في تشكيل البنية الفلسطينية السياسية المعاصرة، بل وأبرزها على المستويين الإقليمي والدولي.
يلخص أبو إياد تجربته كفلسطيني بقصة رواها لنا في مقر منظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر عام 1975، وكان اجتماعاً لكوادر فتح استمر حتى ساعة متأخرة من الليل تطرق فيه الشهيد القائد إلى أمور عديدة.
اضطر إلى السفر من الكويت إلى بيروت لعلاج إحدى بناته التي كانت تعاني من إصابة في الساق أدت إلى حدوث عرج خفيف، وعند وصوله إلى مطار بيروت تم احتجازه مع عائلته في إحدى غرف المطار إلى حين البت بموضوع دخوله أو عودته على الطائرة نفسها، فقط لأنه فلسطيني يحمل وثيقة سفر.
وبعد مضي ساعة، تم إدخال كلب إلى غرفة الحجز، وعند استفسار أبو إياد عن ذلك قيل له بالحرف الواحد "هذا الكلب لا يملك تأشيرة دخول مثلكم تماماً".
لم تمض ساعة من الزمن حتى تم الإفراج عن الكلب وبقي أبو إياد وعائلته رهن الحجز، فقد استطاع صاحب الكلب أن ينهي اجراءات دخوله؟!
يعقب أبو إياد على هذه الحادثة، أنه منذ تلك اللحظة وصل إلى قناعة تامة أنه دون ثورة لن يكون للشعب الفلسطيني قيمة انسانية أو كرامة بشرية أو وجود.
ثمانية وخمسين عاماً قضاها أبو إياد في اليوم الأخير من شهر آب 1936 في يافا حتى لحظة سقوطه في تونس قبل انتصاف شهر كانون الثاني عام 1991، متفجرة باللوعة والسفر والاعتقال والأمل الذي لم يكن يفارقه. كان يحمل فلسطين كاملة على منكبيه، كما كان يحلم بها كاملة.
وعندما اخترقت رصاصات الخيانة جسده أصابت فلسطين كلها، لكن الوطن الذي ناضل أبو إياد وقضى من أجله يسجل لشهدائه حياة جديدة، وخلوداً في سجلات المجد، وأملاً للأجيال القادمة مهما ادلهمت الأجواء، وتضاءل الضوء، وازدادت المؤامرات على قضية فلسطين التي كان أبو إياد من الذين صنعوا لها هوية بعد أن كان الفلسطيني بلا هوية.
يلخص أبو إياد معاناة شعبه وهو أحدهم في كتابه الجدير بالقراءة من كل فلسطيني وفلسطينية، ويجسد مأساتهم ليس فقط كقضية وطنية بل كقضية انسانية تمس الوجود البشري في الصميم، وتحطم الروح الإنسانية، وتخدش المثل والقيم الأخلاقية البشرية جمعاء.
آمن بحتمية الوصول إلى تجسيد عملي للكيان الفلسطيني، وقال في إحدى جلساته بالجزائر "قد لا أعيش حتى أرى الكيان الفلسطيني، ولكن المؤكد أن الأجيال القادمة من الشباب ستشهد ولادته"، فهل صدقت توقعاته؟ تمتع بحس آني مرهف وملاحظة دقيقة وتوقعات صائبة، وافشل عديد المحاولات لاغتياله، ولكن من مأمنه يؤتى الحذر فقد استطاع عميل للموساد وكان يعمل ضمن مجموعة صاحب البندقية للإيجار المدعو صبري البنا (أبو نضال) أن يخترق صفوف المرافقين للقيادة، وفي ليلة الرابع عشر من كانون الثاني 1991، الليلة التي سبقت قصف التحالف لبغداد صدرت الأوامر بالتنفيذ، وهكذا كان.
أبو إياد الرجل الثاني في "فتح"، الخطيب الذي لا يشق له غبار، ما أن يعتلي المنصة حتى تتوجه عيون وأحاسيس الحضور إلى كلماته التي كانت تتدفق من فمه دون ورقة تحضير. أفكاره جاهزة ويعلم جيداً ماذا يجب أن يقول سواءً تعلق الأمر بالهم الفلسطيني أو الاشكال الفتحاوي أو الخلافات الفلسطينية العربية أو العلاقات الدولية.
عملاق حركة فتح ورجل المهمات الصعبة وحامل الهموم والذي كانت رؤيته في عالم السياسة لا تخيب.
ذهب أبو إياد ليلتحق بالركب، وأغمض عينيه على صورة وطن يقي الفلسطيني شرور اللجوء وذل الغربة، وخلو غرف بيوتهم من الكلاب.