الموقف: خطابنا وخطابهم - حسن سليم
لست اول من يطرح اشكالية الخطاب، سواء الموجه داخليا، او خارجيا، بذات اللغة والمضمون والاصطلاحات وبذات النبرة، وما يعتريه من سقطات، تجعل النتيجة عكسية. معلوم ان الخطاب او الرسالة تكون واجبه الاطلاق لاسباب، اما لطرح الجديد في المعلومة، سواء لم تكن معلومة للجمهور المستهدف، او ان المراد رفده بالمزيد من التفاصيل، او لنفيها او لتأكيدها، لكن في جميع الحالات ينبغي الاهتمام بتفاصيل تتعلق بلغة الرسالة الموجهة وبطبيعة الجمهور المستهدف، وبالوسيلة المستخدمة، اذا كنا فعلا نريد احداث تأثير، او تغيير، او اختراق في الموقف للجمهور المستهدف. وقد يكون من المفيد، استخدام خبر اعلان وفاة الاسرائيلية التي قتلت بالطعن على يد فلسطيني يوم الاحد من الاسبوع المنصرم، في مستوطنة عتنائيل، المقامة على اراضي الفلسطينيين جنوبي مدينة الخليل، حتى فارقت الحياة، كيف نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الاسرائيلية، وعنونته: "صارعت الطاعن وقُتلت أمام أعين ابنتها" وقدمت خبرها بانه: "بعد يوم من وفاتها يتضح إلى أي مدى كانت دافنا مئير امرأة فريدة، ممرضة رحيمة، تبنّت طفلين بالإضافة إلى أطفالها الأربعة، وعملت دائما من أجل مساعدة الآخرين.
وفصلت فيه بان دافنا مئير، التي قُتلت في عتنائيل أمام منزلها، صارعت الطاعن حتى اللحظة الأخيرة، حتى بعد الطعن، بينما كان أطفالها الثلاثة في المنزل معها، فطلبتْ ابنتها التي شاهدت الحادث المساعدة، ولكن محاولات الإحياء فشلت فأعلن عن وفاتها فورا، وكل هذا أمام ثلاثة من أطفالها.
واعلمنا الكاتب ان دافنا مئير تركت خلفها ستّة أيتام، أربعة منهم هم أطفالها البيولوجيون، واثنان آخران تبنّتهما وربّتهما كما لو كانا طفليها، وبانها عملت ممرضة، ومعالجة بالطبّ الطبيعي، وساعدت النساء اللواتي سعينَ إلى أن يصبحن حوامل، وبانه منذ وفاتها لم يكفّ معارفها عن الحديث عنها وإلى أي مدى كانت امرأة فريدة، ومعطاءة، أرادت تقديم المساعدة والعطاء فقط لكل من يحتاجهما، واستشهد الكاتب بشهادة طبيب عربي زميل وصديق لها، تحدث عن انسانيتها ومساعدتها للآخرين.
وبالمقابل يسقط منا الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، لتسارع الفصائل والاحزاب لتبنيه اولا، ورفع صوره المزينه بالبندقية، واطلاق اوصاف التبجيل لنضالاته. بالطبع ما كانوا ليسألوه ان كان فعلا يحب مغادرة الحياة ام لا، او انه فعلا تمنى الرحيل، ولو في موكب جنائزي عسكري مهيب، او انه كان فعلا قد شارك في تلك المسيرة السلمية ويعلم انه لن يعود مساءً الى غرفته الدافئة، او انه كان يشك ولو للحظة، ان الاطباء لن ينجحوا باستخراج الرصاصة من قلبه الصغير، وبالطبع لم يسأله احد ان كان قد انتهى من اللعب مع اصداقائه حين غادرهم، ووعدهم انه سيعود. ولست متأكدا ان كانوا قد سألوه ان كان يفضل الرحيل الهادئ على المشاكسة في باحات المدرسة، وازعاج الجيران بعد منتصف الليل، وضحكاته تعلو فوق صمت نومهم، والظن ان كثيرا مما اراده اطفالنا المغادرون مبكرا لم يتحقق لهم، واملهم كان بأن العمر يتسع لها. في حادثة قتل دافنا مئير، ثبت ان المنفذ ترك الاطفال دون ان يلحق بهم الاذى، وكان قادرا على ذلك، لكنه لم يفعل، اراد ارسال رسالة تفيد بالاختلاف بين محتل غاصب لا يفرق بين طفل بعمر علي دوابشة وبين مقاتل في معركة، لكن تلك الرسالة لم ينشرها الاعلام الاسرائيلي، لانه يدرك معنى نشرها، وارسل رسالة مضادة جعل المنفذ مجرم لا يأبه بدموع اطفال تم حرمانهم من والدتهم، بعد ان ذبحها على مرأى منهم.
بين من حرق عائلة الدوابشة ومنهم الرضيع علي، ومن قبلهم محمد ابو خضير، وبين من طعن مستوطن استقوى عليه وسرق ارضه بالطبع هناك فرق. وبين احمد المتبقي من عائلة الدوابشة الذي لن يجد تفسيرا او مبررا لما حدث معه ومع عائلته التي كان نائمة في منزلها على ارضها، وبين اطفال دافنا مئير المقيمين في مستوطنة عتنائيل، المقامة على اراضي الفلسطينيين جنوبي مدينة الخليل، هناك فرق. اما الفرق الاكبر فهو بين خطابنا التبجيلي، اللحظي، وبين خطابهم المُؤنسن الذي استطاع ان يجعل من عرق القاتل دموع شفقة، ومن دم الضحية الذي علق بملابس القاتل، دم اصابته نتيجة طعنة المكلوم.