رحل العميد- عمر حلمي الغول
ترجل عميد الصحافة المصرية والعربية عن عُمر ثلاثة وتسعين عاما. توقف قلب محمد حسنين هيكل، العربي الاصيل بعد ان قدم لمجايليه وللاجيال الجديدة كل ما اختزنه وعيه الوطني والقومي من معارف في مجال اختصاصه.
الاستاذ هيكل كان علامة فارقة في تاريخ الصحافة، التي عمل فيها على مدار سبعة عقود طويلة. أعطاها مذ بدأ في مطلع اربعينيات القرن الماضي، كما اعطته. بدأ مراسلا حربيا، وذهب إلى فلسطين ليغطي أحداثها الجسام عشية النكبة 1948، تعرف آنذاك على الضابط جمال عبد الناصر، الذي حوصر في الفالوجة مع القوات المصرية. ومن المفارقات المهمة في تاريخ العميد هيكل، ان الزعيم الخالد جمال أصبح رئيسا للجمهورية العربية المتحدة في اعقاب ثورة يوليو 1952، مما هيأ له الظروف لتولي رئاسة تحرير جريدة "الاهرام"، التي نهض بها، حتى امست واحدة من اهم عشرة صحف عربية وعالمية.
كان مقال هيكل الاسبوعي "بصراحة" على مدار سبعة عشر عاما، محل اهتمام الزعماء السياسيين العرب والاجانب. لا سيما وان مصر عبد الناصر، اخذت موقعها كرقم اساسي ليس في الوطن العربي وإقليم الشرق الاوسط، بل على مستوى العالم، بعد تشكيل منظمة عدم الانحياز عام 1955 في باندونغ، وباتت عنوانا للتحرر القومي والافرو اسيوي واللاتيني. اضف إلى ان مقالة الاستاذ كانت بمثابة عنوانا ونبراسا للنخب السياسية المصرية والقومية في قراءة التوجهات السياسية للشقيقة الكبرى.
وميزة المعلم هيكل، انه كان واسع الاطلاع نتاج شبكة العلاقات، التي نسجها مع الساسة العرب والاجانب، ومع الاعلاميين من مختلف الاتجاهات والمشارب مما كان يمنح تحليله السياسي وقراءته للاحداث والتطورات استشرافا متميزا. ولم يحد يوما عن بعده القومي. رغم ارتباطاته الواسعة مع الساسة من الغرب الرأسمالي، لا بل انه استخدم تلك العلاقات في تبيان ما على العرب الانتباه له، لحماية مستقبلهم ووحدة دولهم وشعوبهم. وكان ضد التطرف في العلاقات مع دول الاقليم والعالم. لكنه لم يساوم ولا للحظة على المصالح القومية.
وأثناء توليه رئاسة تحرير "الاهرام" و"اخبار اليوم" وصحيفة "روز اليوسف" اصدر العشرات من الكتب، وحرر كتاب "فلسفة الثورة"، الذي كان الحامل لافكار الزعيم الراحل عبد الناصر. وأسس مركز الدراسات الاستراتيجية في مؤسسة الاهرام، وعمل وزيرا للاعلام 1970 ومستشارا للرئيس السادات قبل ان يعتقله، ولم يفرج عنه إلآ بعد تسلم الرئيس مبارك الحكم. غير ان علاقته مع الرئيس الرابع لم تكن جيدة.
نبوغ هيكل الاعلامي السياسي تجلى منذ بداية مشواره، عندما ربط بين الانتماء لمهنة المتاعب والخبرة والمعلومة وسعة العلاقات العامة، والقدرة على الربط العميق بين الاحداث وسبر أغوار التطورات. ولم يداهن اي نظام سياسي حتى عبد الناصر نفسه، الذي ربطته علاقات صداقة عميقة، بل كان ناصحا ومساعدا له، وليس مسحجا ومطبلا. مما ميزه عن اقرانه من إعلامي مصر والعرب السابقين واللاحقين.
ولا يجوز الكتابة عن هيكل دون التوقف عند علاقته بالثورة الفلسطينية وقيادتها. حيث دافع عنها، وساهم دائما في تقديم المشورة والنصح. كما قدم قيادة حركة فتح للزعيم عبد الناصر بعد ان ساءت علاقته بقيادة القوميين العرب والجبهة الشعبية بقيادة الراحل جورج حبش، الذين لم يستفيدوا من تلك العلاقة، وتعاملوا معها بخفة ومراهقة يسارية. مما افقدهم سندا مركزيا، ولم ينتبهوا لذلك إلا بعد فوات الاوان.
عاش الاستاذ الهم الفلسطيني والسوري والعراقي والجزائري والتونسي والليبي واللبناني والسوداني والصومالي والاردني والخليجي واليمني والمغربي كما يليق بالقومي العربي الاصيل. لم يحد يوما عن قوميته. التي دافع عنها كما يجب ويليق بالفارس المقدام وبحنكة وحكمة سياسية عالية. رحم الله العميد محمد حسنين هيكل، الذي ستفقتده الاجيال الجديدة في زمن نحن احوج ما نكون إليه وإلى امثاله.
oalghoul@gmail.com