بوتين.. المرء الذي عرف قدر نفسه- باسم برهوم
من السابق لأوانه الحُكم أو تقييم قرار الرئيس الروسي بوتين بسحب مُعظم قواته العسكرية من سورية، إلا أن انسحابه وهو في ذروة نجاحاته، يُشير إلى أن هذا الرجُل تصرف بذكاء وضمن حسابات دقيقة، اساسها المصلحة الروسية، تصرفه هذا يؤكد أن هذا الرجل الذي طالما فاجأ العالم بقراراته، استفاد كثيراً من الدروس وعبر التدخل العسكري الأميركي الكارثي في العراق عام 2003.
بوتين قرر الانسحاب في لحظة حقق تدخله العسكري، الذي بدأ في أيلول الماضي، انجازات عسكرية وميدانية غيرت كثيراً من قواعد اللعبة السياسية في الأزمة السورية. كما أن قرار الانسحاب في لحظة شعر خلالها، أن الانزلاق أكثر في مستنقع الأزمة السورية- سيعني استنزافاً اقتصادياً لروسيا التي يُعاني اقتصادها أصلاً من أزمة بسبب انخفاض اسعار النفط في السوق العالمية. فالرئيس الروسي اختار لحظة الانسحاب بذكاء لما فيه مصلحة بلاده أولاً وأخيراً من دون أن يخذل حلفاءه، كما خذلت واشنطن حلفاءها في العراق.
والمقصود هنا الرئيس السوري بشار الأسد، الذي بات هامش مناورته السياسية أوسع الآن من أن يطالب أحد برحيله الفوري.
ما الذي حققه بوتين من تدخله في سورية حتى اللحظة، ولماذا يعتبر توقيت الانسحاب ذكياً كما سبقت الإشارة له؟
لقد حقق بوتين حزمة من الانجازات من خلال تدخله العسكري في سورية، بداية اصبحت روسياً الرقم الصعب في معادلة الأزمة السورية، فلم يعد ممكناً القفز عن الدور الروسي والمصالح الروسية في المنطقة بل وفي العالم. أهمية هذا الانجاز انه تحقق عبر تدخل عسكري قصير الأمد ولم يكن مكلفاً عسكرياً واقتصادياً ليتحول الى مأزق بدل أن يكون انجازاً.
أثبت بوتين أن لدى بلاده آلة عسكرية حديثة قادر على استخدامها بكفاءة وهي آلة تمتد من الاقمار الصناعية الى الصواريخ الذكية والطائرات القاذفة والمقاتلة بالإضافة الى قوات النُخبة البرية التي أدت جميعها دورها بتنسيق وترابط أدهش الغرب والعالم، ما أضاف كثيراً للدور الروسي على الساحة الدولية.
أما على الصعيد الميداني، فقد قلب التدخل الروسي العسكري ميزان القوى على الأرض، فقد استطاع الجيش الروسي الرسمي وبدعم روسي من استرجاع اراضٍ سورية تُقدر مساحتها بمساحة لبنان أي عشرة آلاف كيلو متر مربع، بالإضافة الى استعادة أكثر من 400 قرية وبلدة ومدينة، ما ثبت أقدام الأسد في أية تسوية قادمة للأزمة السورية. وهي امور تأخذ بالحُسبان عند إعادة رسم خرائط المنطقة.
قرار الانسحاب الروسي في ذروة تحقيق هذه الانتصارات، هو قرار حكيم وذكي، خصوصاً ان هذا التدخل قد اقترب كثيراً من الخطوط الحُمر ميدانياً وسياسياً، والتي يُمثل اختراقها الدخول في ازمة مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وتورطاً طويل الأمد وهو ما لا يريده بوتين الذي يبني انجازاته السياسية على خطوات تكتيكية محسوبة هنا وهناك من دون أن يتورط بصراعات طويلة ومُكلفة قد تتحول الى هزائم.
ذكاء بوتين، الذي بات حديث العالم، ربما ينطبق عليه المثل العربي القديم "رحم الله امرأ عرف قدر نفسه" فالرئيس الروسي الذي يُدرك حدود قوة بلاده العسكرية والسياسية والاقتصادية جيداً، يستخدم هذه القوة والقدرة بمهارة وبالقدر المناسب جداً دون أن يتخطى هذه الحدود ويُلحق ببلاده أي خسارة، بل على العكس من ذلك، فإنه يستخدم أوراق قوته بطريقة تُضيف لروسيا اضافات تكتيكية في كافة المجالات بحيث أصبحت موسكو أحد الفاعلين والمقررين على الساحة الدولية والنظام الدولي الجديد الذي تتم صياغته على نار ازمات الشرق الأوسط، وبالتهديد الازمة السورية.