التسول الهادئ- حافظ البرغوثي
فجأة توقف شاب عند طاولتنا على مقهى ركوة عرب في الجبل الهادئ في عمان "اللويبدة" وقال بهدوء: "اذا معكم مصاري أعطوني اذا ما معكم بلاش" كان أسلوبه الهادئ أيضاً ومظهره البسيط وملابسه الرثة توحي بوضعه النفسي والمادي، فلأول مرة أصادف متسولاً بهذا الاسلوب، ولما لم يمد أحد يده الى جيبه تحرك مغادراً فأوقفناه، وناولناه ما في النصيب.
التسول ظاهرة عربية متعددة الوجوه حالياً، هناك أناس امتهنوا هذه المهنة عن خداع وكسل وهناك من هم فقراء ومرضى نفسياً، والأخيرون يستحقون العطف لأن الفقير حقاً وبكامل قواه العقلية لا يتسول.
وتصادف حالياً أشكالاً من التسول تصل الى النصب والاحتيال كأن يعمل سائق أجرة ويتسول عن طريق سيناريو لا يتخيله انسان، فذات سنة كنت في القاهرة انتظر سيارة أجرة ولما توقف السائق وجلست الى جانبه تظاهر بأنه يرد على مكالمة وهو يقول "خلاص.. مسافة السكة وحكون عندكم والجهاز معاي"، لم أفهم ما يقوله، لكنه تظاهر بالحزن وقال "مسكين ده كفن جارنا"، والتفت الى المقعد الخلفي حيث يوجد قماش أبيض، وأردف أن جاره مات وليس عنده ثمن كفن بل ثمانية اولاد وبنات صغار ثم عاد للاتصال، وسمعته يقول "خلاص.. ثمن الجهاز والجنازة على راجل طيب راكب معاي.. الله يجازيه كل خير".
وأقفل الاتصال والتفت الي شاكراً تبرعي بمصروف الجنازة وبالطبع لم تنطل علي الحيلة فقلت له ضاحكاً: "خليه عرس ما دام في قماش أبيض والمصاريف علي"، وطلبت منه الوقوف ونزلت.
وفي مرة ثانية توقف سائق أجرة وركبت معه وكان يتصل أيضاً وسمعته يقول: "ما تسمهووش الا لما أوصل عندكم"، وأبدى الرجل سروره وقال إنه رزق بمولود لكن يبقى عليه مئة جنيه من أجرة المستشفى، ثم عاد يتصل وسمعته يقول لزوجته انه قادم لاخراجها لأن الله أرسل له راكباً تبرع بمئة جنيه، وأنه سيسمي المولود باسمه، ثم التفت الي، اسمك ايه يا باشا، وأيضاً ضحكت وقلت له: "يا راجل شوف حد تاني أضحك عليه".
وفي عمان أيضاً هناك شريحة من السائقين نسخة عن أقرانهم المصريين، ففي ذات يوم كنت خارجا من أحد الفنادق وإذ بسائق أجرة يتوقف لأركب معه، وما ان ركبت حتى قال ان الله ارسلني اليه في هذا الصباح لأفك أزمته فقد بقي عليه 30 ديناراً ليكمل أجرة ولادة زوجته في المستشفى، وأنه سيذهب لاخراجها مع ابنه بعد اتصالي، بالطبع نزلت من السيارة وقلت له: "اختصر، فما دمت تتسول لماذا لا تريح نفسك من السياقة وتجلس أمام مسجد؟".
أسوأ متسولات من هنا على الجسر في الشونة، فهن واطفالهن لا يتركن المسافر الا بعد ان يدفع وإن دفع جاء غيرهن، فهن يدعين أنهن فلسطينيات تارة وتارة من النور وتارة من اللبنانيات إبان الازمة اللبنانية ثم عراقيات إبان الأزمة العراقية ثم سوريات وأظنهن من الغجر.
عندنا زحفت موضة التسول على الاشارات أي مسح الزجاج أو بيع العلكة أو مناديل الورق وهي أسوأ أنواع التسول لأنها تعرض حياة المتسولين للخطر وتعرقل السير ويجب مكافحتها من قبل الشرطة.