"أحمد جبارة – أبو السكر"- عيسى عبد الحفيظ
في السابع عشر من تموز 2013، نشرت الصحف ثلاثة أخبار منفصلة عن رجلين، تفصل بينهما قارة كاملة، لكنهما مرتبطان بحكم الثورة والنضال من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة، وبحكم الاعتقال وطول فترته.
الرجل الأول نلسون مانديلا من جنوب افريقيا والذي كان يرقد على فراش الموت محتفلاً بعيد ميلاده الخامس والتسعين.
أما الآخر فهو أحمد جبارة (أبو السكر)، والذي استأثر بخبرين منفصلين أولاهما خبر رحيل أبو السكر، والثاني أشار إلى مشاركته في إفطار رمضاني مع ذوي الأسرى في محافظة طولكرم.
رحل أبو السكر بعد سبعة وسبعين عاماً من عمره، وهو يتمتع بصحة جيدة حافظ عليها أثناء فترة الاعتقال حيث كان يمشي مسافة كيلو مترات كل يوم داخل الزنزانة. خرج بعد عشرات السنوات ليكون سباقاً في كل المناسبات الوطنية والاجتماعية. خفيف الظل حلو المعشر، جابرا لعثرات الكرام.
أبنه عيسى قراقع بكلمات ربما تفيه بعض حقه: "تحت خمس شجرات من الصنوبر والكينا العاليات، ووري جثمان الشهيد المناضل أحمد أبو السكر في مسقط رأسه قرية ترمسعيا. كان ظله يعانق ظل الشجر الأخضر في زفاف جماهيري مهيب، اختلط التراب الأحمر بالحناء فوق جسده المغادر إلى رحلته الأبدية، واقتربت الشمس قليلاً وتدلت فوق القبر، والقت قطرات من ندى ساخن ثم عادت إلى السماء"، كان مقرراً أن يذهب أبو السكر إلى عائلة الشهيد الأسير عرفات جرادات في الخليل، حيث حمل مشروعاً لتبنى ابنه الذي ولد بعد استشهاده، وكان سيتناول طعام الإفطار في بيت الأسير زياد غنيمات في صوريف، كل شيء تغير وتبدل لأن ابو السكر لم يأت إلى الموعد، فقد سقط واقفاً في مساء رمضاني، واعتذر للجميع مبتسماً ومودعاً وصائماً. لم يتأخر أبو السكر عن مواعيده والتزامه الوطني والإنساني في زيارات عائلات الأسرى. كانت طلته على أمهات وأطفال الأسرى تعطيهم الأمل واليقين بحرية وعودة أبنائهم سالمين من السجون. لم يشك ولم يتعب ولم يتذمر عندما كان يضطر إلى التأخر حتى منتصف الليل.
في يوم وفاته، كان العالم يحتفل بعيد ميلاد مانديلا الخامس والتسعين. خرج نلسون مانديلا بعد سبعة وعشرين عاماً قضاها في سجون دولة التمييز العنصري، إيذاناً بانتهاء هذه الفترة الحالكة في جبين الانسانية. نفس المدة قضاها أبو السكر في سجون الاحتلال. خرج بدوره تحت الحاح الرئيس الراحل ياسر عرفات. كلاهما عاش بعد حريته حياة حافلة بالنضال الفعال والحضور الدائم. طريقان متشابهان، شعبان مختلفان في قارتين: فقط ما ميزهما هو أن أبو السكر سبق مانديلا ببضعة أيام.
دخل السجن وهو في أواخر الثلاثينات، وبوادر الشيب قد غزت رأسه. اتخذ وتيرة واحدة لا تتغير، أولهما الالتزام التنظيمي، والمشاركة الفعالة. أحاديثه ممتعة عن رحلاته إلى أميركا اللاتينية، والمثابرة اليومية على الرياضة مستغلاً الفورة اليومية بشكل مطلق، حيث ينطلق في ركض رشيق حول الساحة، ينهيه بالألعاب السويدية، ثم حمام بارد، وبعد ذلك يعود إلى سيرته اليومية في المشاركة والنشاط، والتي تبدأ عادة منذ الصباح الباكر حيث يستيقظ قبل شروق الشمس لقراءة القرآن والصلاة. حاول الهرب من السجن، واستعان بزوجته التي ادخلت منشاراً وضعته داخل حذاء، لكنه اكتشف أثناء الفحص مما أدى إلى اعتقال الزوجة وحكم عليها بالسجن ثمانية شهور وغرامة مالية قيمتها 3500 دينار أردني، ومنعت من المغادرة والسفر إلى أن عقدت اتفاقية اوسلو عام 1994.
الثالث من حزيران 2003 تاريخ لا ينساه أبو السكر حيث خرج من السجن خلال منع التجوال، وذهب إلى المقاطعة قبل أن يذهب إلى بيته لعناق الرئيس ياسر عرفات الذي استقبله بحفاوة بالغة، وتكريماً له على وطنيته فقد تم اضافته إلى المجلس الثوري لحركة فتح، ووكيلاً لوزارة الأسرى والمحررين. غيب الثرى أبو السكر، لكن نهجه سوف يستمر كرجل لم يتوان لحطة واحدة عن المشاركة الفعالة، والانتماء للوطن وللحركة الأسيرة.
مات أبو السكر واقفاً تماماً كأشجار فلسطين التي ظللت قبره. وفاته تشعرنا جميعاً بالفخر كوننا ننتمي لشعب أخرج رجالاً مثل " ابو السكر".