حينما سرقوا نقودي - محمد علي طه
لا شيء يفتح شهيّتي للقراءة في هذه الأيّام، لا الرّوايات العربيّة أو العالميّة، ولا دواوين الشّعر والمجموعات القصصيّة، ولا كتب التّاريخ والسّير الذّاتيّة وعلم النّفس وعلم الاجتماع، ولا الكتب التي الجأ إليها عندما تدلهمّ السّماء وتضيق الدّنيا بي مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد واللزوميّات والميثولوجيا والكتب المقدّسة. هي حالة طارئة وغريبة جعلتني أقرأ ثلاث صحف يوميّة في لغات مختلفة. أقرأ بعض الأخبار وقليلا من المقالات السّياسيّة وشيئا من الصّفحات الرّياضيّة والفنّيّة. لا أدري ما الذي دعاني اليوم لقراءة مقالات في الملحق الاقتصاديّ للصّحيفة الكبيرة، مع أنّ هذا الملحق المهم (لرجال الاقتصاد والأعمال) يصل إليّ صباح كلّ يوم منذ سنوات مع عدد الجريدة ولا أقترب منه. لا خيل عندي ولا مال كما قال أبو الطّيّب. والشّهر الذي ليس لك راتب أو أجر فيه لماذا تحصي أيّامه؟ وما علاقتي بالمحلق الاقتصاديّ وأخبار البورصة والشّركات والمصارف وأسعار العملات الأجنبيّة؟ وماذا يعنيني إذا كان ذلك الملياردير الرّوسيّ أو الأميركيّ أو العربيّ الخليجيّ زادت أمواله بكذا مليون يورو في هذا العام أو خسر كذا مليون دولار في السّنة الماضية؟ بطّيخ يكسّر بعضه. ولا شكّ بأنّ قراءة رواية ليوسا أو ماركيز أو صنع الله ابراهيم أو محفوظ أو قصيدة لدرويش أو أدونيس أو القاسم أو مشاهدة مباراة كرة قدم لفريق أوروبيّ أفضل من أموال روتشلد والوليد بن طلال بالنّسبة لي على الأقلّ. ولكنّ ماذا أفعل؟ والمثل القرويّ يقول: إذا وقع الحرّ لا يلبط. وفيما أنا أقرأ "اكتشفت" أنّ الفائدة المصرفيّة في البنوك هبطت إلى الصّفر وأنّ الزّبون إذا أودع أمولا نقديّة في المصرف فلن تربح أمواله سنتا أو أغورة أو ملّيما أو... ويخسر شيئا منها. وتساءلت: ما دام الأمر كذلك فلماذا جبى البنك منّي مبلغا "محترما" على حساب القرض الأخير الذّي استدنته؟ ولماذا يضيف إلى حسابي التّعبان مبلغا ما كلّ ثلاثة أشهر فائدة على السّحب الزّائد الذي يرافقني ويصادقني عنوة منذ عقود؟ وطمأنت نفسي بأن رجال المصارف يفهمون بهذه الأمور أكثر منّي وبأنّ الدّولة لن تسمح لهم باستغلالي (يا لسذاجتي!) وأن آلاف الزّبائن بل عشرات الآلاف أو مئات الآلاف مثلي. وحطّ راسك بين الرّوس وقول يا قطّاع الرّوس.(يا للخنوع!). وفي مقال آخر قرأته في الملحق نفسه وجدت أن الكاتب ينصح الزّبائن بشراء الخزائن وإيداع نقودهم فيها كي لا يخسروا شيئا. ولا ينسى الكاتب الاقتصاديّ المحترم أن يدلّ الزّبائن على أفضل الخزائن وتكلفة الواحدة منها مع التّركيب في حائط البيت. كان المقال شائقا وممتعا حتّى أنّي فكّرت بشراء خزنة حديديّة، واخترت واحدة منها. ووضعت خطّا بالحبر الأحمر تحت عنوان شركة التّركيب ورقم هاتفها. وصدمني الكاتب في نهاية مقاله عندما أكّد لي وللقرّاء أنّ "أولاد الحرام" اكتشفوا تكنولوجيّا طريقة لفتح أيّة خزنة أو خزينة أو... خلال سبع دقائق فقط.. وذعرت.. وكدت أصرخ "وا... نقوداه.... وا.. وا..". يا أهبل، ما الذّي أزعلك وأغضبك وأحزنك وأنت تعيش على السّحب الزّائد؟ ليس لي إلا أن أعود إلى كتبي التي هجرتها!!