أنسنة الجلاد - محمد علي طه
يا ناس، يا بشر، يا إخوتي، أفيقوا. إصحوا. عودوا إلى الصّواب. ماذا تفعلون؟ تذكّروا من أنتم قبل أن تكونوا جلادين وجنرالات ومدّعين وقضاة ووزراء وحكّاما وقياصرة. أنتم بشر قبل كلّ شيء. أنتم الآن تلامسون وتنطحون فضاء الله وهواءه. وغدا لن تكونوا!! هذا الكلام لم يكتبه مفكّر ولم ينطقه واعظ من العراق أو اليمن أو سوريا أو ليبيا أو أفغانستان أو إسرائيل أو غيرها من أقطار الأرض التي يعاني فيها النّاس من صلافة العساكر والقتلة وقطّاع الطّرق وسالبي خبز الفقراء بل كتبه قبل مائة عام وبضع سنوات الكاتب الرّوائيّ الرّوسيّ العملاق ليف تولستوي (1828-1910) صاحب الرّوايتين الرّائعتين "الحرب والسّلام" التي أبدعها وهو في الأربعين من عمره و"آنا كارنينا" التي كتبها وهو في الخمسين. عاش تولستوي معظم سنوات عمره (82 عاما) في مزرعته ياسنيا بوليانا وكان من الطّبقة العليا في المجتمع الرّوسيّ كما كان صديقا للقيصر ورجاله لسنوات عديدة معتقدا بأنّه يستطيع أن يخدم الفلاحين والفقراء بهذه العلاقة. وكتب تولستوي في مزرعته رواياته ومقالاته الفلسفيّة الفكريّة. وفي العقود الأخيرة من عمره حدث عنده انعطاف فكريّ ودينيّ واجتماعيّ حيث دعا إلى التّسامح والتّواضع واحترام الإنسان الفرد والابتعاد عن الحضارة الحديثة، الحضارة الصّناعيّة، حضارة المدينة، والهرب إلى البساطة والعيش في أحضان الطّبيعة فارتدى لباس الفلاحين الذين تماهى معهم وحرث الأرض وزرعها مثلهم، وانتقد الطّبقة العليا وابتعد عن متع الحياة فتحوّل إلى إنسان نباتيّ، كما ترهبن جنسيّا، ويقال إنّ زوجته التي تصغره بستّة عشر عاما عانت من ذلك، وهو الرّجل الذي أنجب منها 13 ولدا (وله ولد آخر من زواج غير شرعيّ) ولم يكتف بالدّعوة إلى البساطة بل قرن البساطة مع اللاعنف. وكتب بعد ثورة 1905 أنّه لا يؤيّد الثّوريّين لانّ عنفهم يشبه عنف السّلطة التّي يناضلون ضدّها ولكنّ السّلطة أسوأ منهم. تأثّر الزّعيم الهنديّ مهاتما غاندي بتولستوي في قضيّتي البساطة واللاعنف اللتين انتهجهما في نضاله ضدّ المستعمرين الانجليز. آمن تولستوي بالانسان بأنّه خيّر بطبعه ولا فرق بين إنسان وبين إنسان في كلّ مكان وزمان ولا فرق بين لغة وثقافة ودين. يروي تولستوي في مذكّراته أنّ يهوديّا أميركيّا زاره في مزرعته ووجد أنّ أفكاره غير مقبولة لديه وشعر بعدم الرّاحة معه فيكتب "من الصّعب أن تحبّ يهوديّا ولكنّ عليك أن تحاول!". ولو عاش تولستوي في أيّامنا في الخليل أو في مخيّم الدّهيشة أو في العيسويّة أو في دوما وعانى من ممارسات المستوطنين وعسكر الاحتلال وسمع أقوال عدد من الحاخامات وأعضاء الكنيست فماذا سيكتب؟ هل سيضيف إلى الجملة السّابقة: "عسى أن تؤنسن الجلاد!!".