الدبلوماسية العربية في الواقع والمتخيل - د. مراد شاهين*
كباقي فروع ومجالات العلاقات الدولية تم تطوير الدبلوماسية مع مرور الوقت لتصبح مادة يمكن دراستها وتدريسها في معاهد الدبلوماسية ومراكز البحوث المتخصصة، وفي الجامعات.
وتجب الإشارة هنا الى ان الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية كانت رائدة التطوير في هذا الحقل في العهدين الحديث والمعاصر. وأصبح لدينا مدارس في الدبلوماسية لكل منها النّكهة والطابع او البصمة الخاصة بها. فنجد، على سبيل المثال، ان هنالك دبلوماسية أوروبية ودبلوماسية روسية ودبلوماسية أميركية، وهذا يعتبر من باب التصنيف العلمي او الأكاديمي للبصمات او المدارس الدبلوماسية.
ويأتي التساؤل هنا: هل يمكن الادعاء بوجود دبلوماسية عربية؟ وهل يمكن اعتبار دبلوماسية الدول العربية المختلفة حقلا جديراً بالدراسة؟ في المقام الأول، سبق ان طرح هذا السؤال الدبلوماسي العربي المخضرم، الأخضر الإبراهيمي، وأجاب بأن "هناك دبلوماسيين عرب" ولكن ليس هنالك مدرسة دبلوماسية عربية. هكذا إذاً هو الواقع ويترتب عليه ان القول بعكس ذلك ليس تصنيفاً علميا بقدر ما هو تعميم اعتباطي يُراد به التعبير عن موقف سياسي او ايديولوجي خاص بمن يستخدمه، او قد يكون استخدام التعبير عفويا دون مقاصد سياسية او ايديولوجية.
وظاهرة التعميم هذه ليست بغريبة علينا في بلدان العرب، حيث نقول "الوطن العربي" ولا نعرف ما اسمه، ونقول "الأمة العربية" ولا نرى لها دولة، ونقول "العمل العربي المشترك" ولا ندركه. ولكن رغم هذا ربما من الممكن الحديث عن دبلوماسية عربية- في نطاقات محدودة العدد والنوع- في مراحل مختلفة خلال الصراع العربي- الإسرائيلي. فمثلا، اجمعت الدول العربية على مقاطعة اسرائيل بعد هزيمة حرب 1948.
وفي الخرطوم، ايضا، كان هنالك اجماع عربي على اللاءات الثلاث بعد هزيمة حرب حزيران 1967.
ويشار هنا الى ان مثل تلك المواقف تمت تحت لواء الجامعة العربية التي هي المنبر الذي يستطيع ان يَجمع الدبلوماسيين العرب ولكن لا يستطيع ان يُوحدهم. تلك المواقف تحتمل عدة تفسيرات: أولاً ان الدبلوماسيين العرب اشتركوا في الرؤية تجاه اسرائيل في تلك اللحظة بسبب ان طبيعة الأزمة استدعت ذلك وليس لأن هنالك اطاراً عربيا مشتركاً يُحدد فيه معايير وآليات التفاعل العربي لإدارة او حل الأزمات الدولية.
ثانياً، أن هنالك عوامل موضوعية تخص الإقليم العربي برمته أو عوامل ذاتية تخص دولة عربية بعينها، ولكن يمكن ايجاد ارضية مشتركة تكوِّن منطلقاً لاجتماع موقف دبلوماسي عربي مشترك. ثالثاً، هنالك عامل معنوي ينم عن رجاء او حتى أمنية، ربما، تجتمع عليها غالبية شعوب الدول العربية وهي ان يكون هنالك اطار دبلوماسي عربي واضح في اهدافه واليات عمله تجاه بعض القضايا السياسية العربية. هذه العوامل مجتمعة يمكن ان يُنظر لها على انها اسباب كامنة لإدراك الحالة المفقودة- الدبلوماسية العربية. اما بخصوص ما إذا كانت دبلوماسية الدول العربية جديرة بأن تُدرس فلا شك أن هنالك الكثير مما يمكن قوله بهذا الصدد. بداية نحن متفقون ان الدبلوماسية اداة تستخدمها الشعوب والدول لتحقيق افضل المكاسب للأطراف الدوليين في حالات الحرب والسلام. فإذا كانت الحرب هي دبلوماسية او سياسة، والدبلوماسية او السياسة هي حرب ولكن بوسائل أخرى فإننا لا نرى ان الدول العربية حققت انجازات هائلة في هذا المضمار. والحروب العربية- الإسرائيلية منذ منتصف القرن الماضي حتى آخر معركة اسرائيلية ضد لبنان او ضد الفلسطينيين شواهد على ذلك. ولم تكن دبلوماسية الدول العربية افضل حالاً في الحرب العراقية- الإيرانية، او قبل وأثناء وبعد احتلال العراق للكويت. فالذي كان بيده العصمة للحل والعقد في كل تلك الأزمات هو المجتمع الدولي بتزعم من الدول العظمى.
إذاً، نعم لدينا حالات من الإخفاق المتكرر والجديرة بالتوقف عندها للدراسة والتحليل، خصوصا ان تلك الأزمات تداعت سلباً على جميع دول الإقليم العربي. أما الوجه الآخر للدبلوماسية في المنطقة العربية وهو الأكثر اشراقا فهو على الصعيد الفردي للدول واشخاص الدبلوماسية فيها. فهنالك نجاحات فردية في دبلوماسية الدول العربية نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، دبلوماسية الاقتصاد والاستثمار التي تسلكها الإمارات العربية المتحدة التي جعلت من تلك الدولة مهوى لرؤوس الأموال من جميع انحاء العالم. يضاف الى ذلك الحملة الدبلوماسية التي شنتها المملكة المغربية كرد فعل على موقف أمين عام الأمم من النزاع على الصحراء الغربية في مطلع الشهر الحالي.
ومؤخراً موقف الخارجية السعودية من تحرير الإدارة الأميركية لوثائق تدعي تورط السعودية في التسبب بالتفجيرات التي نفذها تنظيم القاعدة في 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن. فقد هددت السعودية ببيع ما قيمته (750) مليار دولار من أذون الخزانة وأصول أخرى لها في الولايات المتحدة، ما دعا الرئيس اوباما الى اتخاذ اجراءات تهدف لتخفيف حِدَّة التهديد والتوتر في العلاقات الأميركية- السعودية.
في نهاية التحليل نجد ان العمل الدبلوماسي العربي عموما وبشكل فردي لا يرقى الى حد ان يُنعت بالمدرسة الدبلوماسية، ولا نجد ان النجاحات والإخفاقات حالات فريدة او غير مسبوقة سواء في المنطقة العربية أو غيرها من مناطق العالم النامي. إن ما يمكن الجزم به هو ان الدول العربية مجتمعة أو فرادى تعاني كماً هائلاً من التحديات، داخلياً وخارجياً، التي ترمي بثقلها على الدبلوماسية في المنطقة فلا تكاد تخرج من ازمة حتى تجد نفسها في مواجهة توالي أزمات أخرى. لذلك معاينة وتشخيص اين تكمن المعضلة وكيف يمكن التغلب عليها هو التحدي الحقيقي الذي يمكن من خلال الإجابة عليه البدء ببناء مدرسة الدبلومسية العربية.
*دائرة العلوم السياسية / جامعة بيرزيت