"د. عبد الكريم نصار" - عيسى عبد الحفيظ
ودعنا بالامس مناضلا عتيقا، وصديقا وفيا، واخا فاضلا عاش من اجل فلسطين ومات من اجلها. انه الدكتور عبد الكريم نصار (ابو محمد)، لمن لا يعرف الفقيد فهو مواليد عام النكبة في قرية بربرة في السادس عشر من ايلول.
قضى طفولته الصعبة في مخيمات الشتات في قطاع غزة اسوة بالاطفال الآخرين اطفال فلسطين الذين كتب عليهم ان يشبوا بسرعة قياسية، وان يتنقلوا من مرحلة الطفولة الى مرحلة الرشد دفعة واحدة.
كانت مخيمات اللجوء في الخمسينيات تمثل انعكاسات النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني بأسره. قرابة مليون لاجئ تم طردهم من ديارهم بقوة السلاح فغادروا على عجل فقط للبقاء على قيد الحياة.
كان نصيب الفقيد عبد الكريم احد مخيمات غزة البائسة، لكنه وبرغم كل الظروف استطاع ان ينهي دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدارس وكالة الغوث الدولية، ثم انتقل الى مدارس غزة لاتمام المرحلة الثانوية التي اجتازها بنجاح. استطاع الالتحاق بجامعة بغداد لدراسة الصيدلة التي انتهى منها بتنفوق عام 1917، لكن محطة اخرى كانت بانتظاره في بغداد هي التي ستحدد مساره في المستقبل. عام 1968 جرى تنظيمه في حركة فتح التي اعطاها كل جهده ووقته الذي لم يقتطع منه سوى القليل لاتمام الدراسة.
لم يتردد ولم يفكر كثيرا كان قد عزم امره على التفرغ في الحركة التي رأى فيها امل العودة والغاء حياة المخيمات البائسة. كانت بيادر وكروم بربرة تناديه وهو يستمع طفلا الى قصص الوالد والوالدة والحسرة تقتلهما في المخيم. رأى عبد الكريم في عيون فتح المستقبل فرهن مستقبله الشخصي بها، وهكذا رسخ عمله ومستقبله في هدف سام اكبر من كل الاهداف والامنيات الشخصية التي تبحث عن المال والجاه. كان عبد الكريم مؤمنا بشكل قاطع ان الوطن هو المراد والهدف، وهو الذي يضمن الكرامة الانسانية الحقيقية.
نظرا لاخلاصه في العمل وتفانيه، تم تعيينه مديرا للخدمات الطبية العسكرية عام 1975 ليديرها بكل كفاءة واقتدار باذلا كل جهده ووقته لتأمين رعاية صحية تليق بالمقاتلين.
كان القدر بانتظاره عندما تم الاجتياح عام 1982، وكعادة كل المناضلين لم يغادر موقعه حتى تم اسره في صيدا لينتقل الى معتقل انصار ويبقى حتى صفقة الافراج في شهر تشرين الثاني 1983 اي بعد قرابة العامين. جاء الى الجزائر يعاني من تبعات الاسر وكان مريضا لكنه كان يكابر حتى اقنعته زوجته ام محمد بالسفر الى رومانيا لتلقي العلاج. كان الفقيد ابو محمد قد فاز بعضوية المجلس الثوري في المؤتمر الخامس وبقي حتى السادس ليتم تعيينه عضوا في المجلس الاستشاري.
ابو محمد شاب فلسطيني خجول متواضع، ابن النكبة وابن الثورة وابن فتح. قريب من القلب لا تلزمك الا دقائق معدودة حتى يكون من افضل الاصدقاء واقربهم الى قلبك. عشق فلسطين واحب عائلته وكان مخلصا لكل اصدقائه.
مثل جيل النكبة بكل ما يحمله من هموم وذكريات، وقرر ان يكرس حياته وعلمه وعمله لفلسطين الوطن الذي قضى وهو يحلم بالعودة الى الكروم والبيادر يلاحق فيها العصافير وهي تغرد على اغصان الخروب، ويشارك والده في جني الحبوب من الارض المعطاءة، لم ينس عبد الكريم الشجرة المقدسة وهي تنز نسغها كل عام لتمتلئ منها الخوابي خيرا وبركة.
مثال في الصدق، مثال في التواضع، واستاذ في التضحية والايثار. صفات مناضل حقيقي لا يرجو شيئا سوى ان يعطي ويقدم ليسعد الآخرين. قليل الكلام لا يأتي على سيرة احد الا بالخير. متفائل دائما حتى في اشد الاوقات قتامة، كان منارة يهتدي بها الشباب وهم في معتقل انصار، ومثالا يفتخر به كل من عمل معه او تحت مسؤوليته، وقدوة لكل المناضلين.
رحم الله الفقيد وألهم ذويه جميل الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون.