أيها الفلسطينيون.. احفظوا هذا اليوم في ذاكرتكم واحفروه في سجلات ثورتكم - عبد الناصر فروانة
لقد شهد تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي العشرات من عمليات تبادل الأسرى، فيما بين الدول العربية وفصائل المقاومة العربية والفلسطينية من جهة، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية. ولم تكن تلك العملية التي نتحدث في ذكراها اليوم هي الأولى من بين تلك العمليات - حيث سبقها وتلاها عمليات تبادل عديدة – إذ وصل مجموعها إلى تسعة وثلاثين عملية تبادل، وكانت جمهورية مصر العربية قد بدأتها في شباط/فبراير عام 1949، فيما على صعيد الثورة الفلسطينية فان للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الحق بأن تفخر بأنها أول من بدأتها فلسطينيا وذلك في تموز/يوليو عام 1968. وأن حركة "فتح" أنجزتها أكثر من مرة وحررت العدد الأكبر من الأسرى.
لكن تلك العملية التي نحتفي بذكراها اليوم كانت هي الأبرز والأروع من بين مجموع عمليات التبادل، والأكثر زخماً. تلك العملية التي اكتسبت بُعداً فلسطينياً وقومياً وعالمياً، فشملت ألف ومائة وخمسين أسيراً من بينهم أسرى أجانب وعرب وفلسطينيي 48 والقدس، بالإضافة إلى أسرى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يُستَثنَ أحدٌ، وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، وخُيِّر هؤلاء المحررون في تحديد الجهة التي يرغبون التوجه لها بعد تحررهم. فكانت مميزة بكل حيثياتها، وشكلت هذه العملية حدثاً نوعياً وانتصاراً تاريخيا في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وسابقة ثورية في كافة نتائجها. كما وشكّلت صفعة قوية للاحتلال بكل مكوناته، وأذلت أركانه، واعتبرت الأكثر وجعاً لأجهزته الأمنية وقيادته السياسية وفقا لتصريحاتهم عقب العملية.
نعم.. هي تلك العملية الرائعة في ذلك اليوم الاستثنائي، العشرون من آيار/مايو من عام ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين، ذلك اليوم المحفور في الذاكرة الفلسطينية والعصي عن النسيان، يوم أن كُسرت فيه القيود وتحققت فيه أحلام الأسرى بالحرية، ويوم انتصرت فيه الإرادة والعزيمة الفلسطينية على عنجهية السجان وصلفه.
وإذا كان التاريخ الفلسطيني يحفظ ذاك التاريخ بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، كيف لا ؟ ووالدي هو واحد من أولئك المحررين في تلك العملية التي مكّنتني من احتضانه وللمرة الأولى في حياتي دون قيود ومراقبة السجان والجنود، في لقاء مفتوح دون تحديد للوقت والزمن، بعد اعتقال وفراق امتد لما يزيد عن خمسة عشر عاما.
واشادتي بها ليس لأن والدي كان من ضمن المحررين فيها، أو لأنني أعرف عن قرب الكثير ممن تحرروا بموجبها، أو لأن عدد المحررين يزيد عن الألف وممن كان لهم دور لافت في اشعال وقيادة انتفاضة الحجارة، وانما لأنني متابع لتفاصيلها وعلى دراية بحيثياتها، وأن كافة الوقائع والشهادات والنتائج تؤكد ودون شك أنها كانت الأفضل بكل المقاييس.
لهذا وبغض النظر عن تباين المواقف من الجبهة الشعبية-القيادة العامة التي أنجزت تلك العملية، أو حتى عن طبيعة العلاقة بالمحررين أنفسهم وانتماءاتهم الحزبية، فان المنطق والعقل يحتم علينا الإشادة بتلك العملية وبما حققته من انتصار باهر. بالضبط كما اشدنا جميعا بصفقة "شاليط" وبغض النظر عن طبيعة مواقفنا ومستوى علاقاتنا بحركة "حماس". إذ أن حرية الأسرى تتطلب التعاون مع كل من يمكن أن يساهم في انتزاعها، وتستدعي الاشادة بكل من ينجح في تحقيقها، بغض النظر عن موقفنا منه وعلاقتنا به.
واليوم وبعد واحد وثلاثين عاما، أرى بأننا بحاجة الى وقفة واستخلاص الدروس والعبر، كما وأننا بحاجة الى عمل وجهد كي نُكرم من تحرروا في تلك الصفقة، وأن ننصفهم وأن نساعدهم في مقاومة متطلبات الحياة الأساسية وأن نضمن لهم ولأسرهم وأبنائهم مستوى لائق من الحياة الكريمة، بعدما هرموا وأنهكت الأمراض أجسادهم وأثقلت كاهلهم الهموم.
وتحل علينا الذكرى الحادية والثلاثون، وهناك الآلاف من الفلسطينيين يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأن المئات منهم يقضون أحكاما بالسجن المؤبد لمرة أو لمرات عديدة. وأن العشرات من بين الأسرى قد مضى على اعتقالهم عشرين عاما وما يزيد، بل ثلاثين عاما وأكثر.
ان السلوك الإسرائيلي في التعامل مع قضية الأسرى، والتهرب من استحقاقات "العملية السلمية"، هو من يدفع بعض الفلسطينيين الى اللجوء لخيار القوة لتحرير هؤلاء، وأن دولة الاحتلال هي من تتحمل المسؤولية عن ذلك.
ان الواجب الفلسطيني يتطلب البحث عن كل الوسائل الممكنة والمشروعة من أجل اطلاق سراح الأسرى، وعدم ابقائهم لسنوات وعقود طويلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي. والكل الفلسطيني يعلق آمالا على ما صرحت به حركة "حماس" بأن لديها ما يمكنها من اتمام صفقة تبادل جديدة تنهي معاناة بعضهم وتطلق سراح المئات منهم. فيما نأمل تكرار صفقة التبادل 1985 بشروطها ومعاييرها ونتائجها. وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا
ان الاعتقالات اليومية التي تنفذها دولة الاحتلال لا تحقق السلام ، وأن السجن لن يكون نهاية مسيرة النضال لشعب يبحث عن السلام، وأن الاعتقالات لا يمكن أن تجلب لهم السلام. فالسلام العادل يبدأ بإنهاء الاحتلال. وأن الأمن والاستقرار لم ولن يتحقق في ظل استمرار وجود الاحتلال ومكوناته. وأن الشعب الفلسطيني لن يهدأ أو يستكين قبل أن ينال حريته وحرية وطنه وأن يعود الأسرى الى بيوتهم وعائلاتهم وشعبهم الذي طال انتظاره لعودتهم.
ويبقى يوم "الاثنين" الموافق 20آيار/مايو1985، يوما ليس كباقي الأيام في مسيرة شعب يقاوم من أجل حريته. فيا أيها الفلسطينيون أحفظوه في ذاكرتكم، واحفروه في سجلات تاريخ ثورتكم.