التمرد على الواقع بين التجربة الأوروبية والتجربة العربية - مراد شاهين
تمردت الشعوب والمجتمعات الأوروبية على السلطة الدينية والسياسية وخاضت صراعات دموية استمرت لعدة قرون افضت، اخيرا، الى نشوء الدولة الوطنية الحديثة في منتصف القرن السابع عشر. وكان الدافع للتمرد على ذلك الواقع حركة فكرية وفلسفية، ادبية وعلمية وفنية ابداعية رافضة للسلطة الرعوية التي اذابت هويات وحريات الأفراد والجماعات. واختراع الدولة الوطنية حينئذٍ كان حلاً خلاقاً أخرج الناس من حالة الرعوية الى حالة المواطنة في كيانات سياسية مستقلة وذات سيادة تعبر عن خصوصية الهوية والانتماء لهؤلاء المواطنين الرافضون الخضوع للسلطة الإمبراطورية او الكنسية. وظلت الشعوب الأوروبية تحيا في ظل الدولة الوطنية (القومية) في استقرار نسبي لم يخلخله إلا صراعات توازن القوى التي ادت الى اندلاع الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن العشرين.
لكن، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، أدرك زعماء بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا ان الدولة الوطنية، بينما حلت مشاكل كثيرة وكبيرة للمجتمعات الأوروبية إلا انها ليست الحل الأمثل لاقتلاع بذور الصراعات الأوروبية. ونذكر هنا ان العقل الذي صقل الواقع الأوروبي الحديث بشكله ومحتواه الثقافي والقيمي والسياسي لا يجد حرجاً في مبدأ التجربة والخطأ. ومن هذا المنطلق بدأ الأوروبيون مسيرة دقيقة ومعقدة نحو الصهر التدريجي والبطيء للحدود الوطنية ودمج وتقريب وتشبيك شعوب وحكومات الدول المُشارِكة على أًسُس مصلحية تبادلية انتهت الى إنشاء الاتحاد الأوروبي. وهذا بمثابة نوع جديد من التمرد السلمي الذي خاضته المجتمعات الأوروبية وحكوماتها على الواقع (الدولة القومية). وبإنشاء الاتحاد الأوروبي تحوّرت الهويات الوطنية لتصبح أوروبية ولكن الأفراد فيه مواطنون –وليسوا رعايا– اوروبيين ينتمون الى ما يشبه النظام السياسي بأُطُر مؤسسية مشتركة غير انها فوق قومية. وتقديرا لما احرزه الاتحاد من تقدم مُنح جائزة نوبل للسلام عام 2012، وبلغ معدل دخل الفرد في نفس الفترة 35,000 دولار سنويا.
ومن باب المقارنة، ما التجربة التي خاضتها المجتمعات العربية في ذات الفترة التاريخية؟ لقد كانت المجتمعات العربية رعايا للإمبراطورية العثمانية لأكثر من خمسمائة عام. وما هو لافت للانتباه ان المجتمعات العربية قبلت العيش كرعايا ولم تتمرد عليها بطريقة تهدد بقائها، على عكس ما فعلت المجتمعات الأوروبية. أوَلمْ تكن تشعر بالاغتراب وفقدان للذات والهوية؟ هل كانت حقا تشعر وتنعم بالأمن والأمان؟ هل كانت المجتمعات العربية تفتقد للوعي الكافي بسوء أحوالها؟ وهل آثرت الفقر والجهل على الخروج على السلطان؟ بينما ليس هنالك اجابة واحدة ومباشرة لأي من هذه الأسئلة إلا ان هنالك حقائق ربما نجد فيها إجابات عن غالبية هذه التساؤلات. أولاً، أن المجتمعات العربية عموماً افتقدت للنخب المفكرة والسياسية ذات البُعد الحداثي وليس لديها رغبة في، او حتى قادرة على، قيادة التمرد وتغيير الواقع. فلقد كانت النخب السياسية المحلية منغمسة في الصراعات السلطوية. ثانياً، لم يكن هنالك حراك فكري وفلسفي واضح وجذّاب لغالبية الناس. فقد كان الفكر الحداثي –عندما وُجِدْ– مُقلِدا لما حدث في التجربة الأوروبية وليس مبدعا في تكوين وعي جَمْعي تلتف المجتمعات والأفراد حوله، يتبلور على اثره حالة عامة تطالب بالتغيير. ثالثاً، تناغم تصاميم السيطرة والإدارة العثمانية كثيرا مع القيم والثقافات السائدة في الولايات العربية. رابعاً، تزامُن حركة النهضة العربية مع انهيار السلطنة العثمانية واستفحال التدخل الأوروبي في المنطقة العربية.
وبانهيار الإمبراطورية العثمانية وجدت تلك المجتمعات نفسها في غياهب العصور الوسطى مقارنة مع التقدم الذي احرزته اوروبا في كثير من العلوم الإنسانية والطبيعية. حينها لم يكن امام المجتمعات العربية مفر سوى القبول بمعادلة الدولة الوطنية بديلاً عن الفراغ الإداري والتنظيمي الناتج عن انهيار الإمبراطورية الراعي، وليس نتيجة تمرد الانسان العربي على الإمبراطورية في معركة البحث عن الهوية والحرية. فمن الطبيعي الإقرار بالدولة – كيف لا في غياب البدائل المحلية المنشأ؟ - إسعافاً أولياً يُلملِمْ الشرذمة والتَّوهان اللذين حلّا بالمجتمعات العربية. ولكن بينما حلت الدولة الوطنية مشكلة واحدة كبيرة إلا أن إحلال الدولة الحديثة ترافق معه تحديات بدت وكأنها عوامل انبعاث حالة تمرد رافض للواقع الذي استجد. ومن بين تلك التحديات ان الدولة تعارضت مع البعدين الديني والقومي وقطعت التكامل الجغرافي الطبيعي للمنطقة العربية.
وبعد عدة عقود على نشأة واستقلال الدولة الوطنية (القُطْرِيّة) لا تزال المجتمعات العربية تعيش في ظلالها كرعايا للسلطة الأبوية. واستطاعت هذه السلطات أن تُحرز شرعيتها بالتشبث بالدين والعروبة تارة، وبالديمقراطية تارة اخرى. وفي ظل هذا الواقع غُيّبَت المعارضة السياسية وصودِرت الحريات وطُمِسَت الهويات الفردية والجماعية. وبقيت الدول العربية تعيش حالة من الركود الذي طالما فُسّر على انه استقرار، وهي ذات الحال التي عاشتها المجتمعات العربية في ظل السلطنة التي بادت منذ قرن من الزمن. واليوم تضع المؤشرات العالمية بعض الدول العربية على رأس قوائم الدول الأقل امنا والأكثر خوفا، والأكثر فقرا وفساداً.
وعندما دقت ساعة التمرد في بعض، وليس جميع، الدول العربية فيما اصبح يعرف بالربيع العربي لكسر الركود المزمن، فاضت المجتمعات العربية في هذه الدول بما لديها من هويات قومية ودينية مطالِبَةً بإسقاط نظمها السياسية. وكانت قوة الدفع للتمرد على الدولة هي الفقر والإضطهاد السياسي ولم يكن خلف هؤلاء الجياع أو المضطهدين نخبة مُتنوّرة في العلوم او الفلسفة والسياسة توجه المجتمعات المتمردة على نظمها. ونتج عن إسقاط النظم السياسية ظهور تيارين متناقضين غير قابلين للتعايش السلمي وهما: تيارات ذات طابع قومي عزز حالة التشرذم والانشطارية من خلال المطالبة بالانفصال والاستقلال عن الدولة الوطنية. وهذا المطلب أتى كردة فعل مباشرة على فشل الدولة العربية في دمج الهويات تخت مبدأ المساواة في المواطنة. وتيارات ذات صبغة دينية تطالب بإلغاء الدولة والهويات والخصوصيات الفردية وحتى الوطنية لصالح الهوية الدينية - الأممية. وها هي لا تزال غارقة في دماء بعضها البعض ومستغرقة في عملية تدمير شاملة تطال كل ما تم انجازه وكل ما يمكن البناء عليه وتطويره، مثلما يحدث في سوريا، ليبيا واليمن اليوم.
ويظل التساؤل: هل ما يحدث على الأرض هو تمرد المجتمعات على الواقع للتخلص من سلطة الأب والرمز في دولها لتأمين مستقبل تستطيع فيه المجتمعات العربية مجاراة الأمم الأخرى في رفاهِها ورِفْعَتِها؟ أم أنه عودة لما يصوره التاريخ على انه من طباع العرب التناحُر على السلطة مدفوعة بعصبيات ضيقة لا تستطيع الدول الحديثة ان تستقر بوجودها؟ أياً كانت الإجابة على هذه التساؤلات، هنالك فروق كبيرة بين تجربتي التمرد الأوروبية والعربية على واقع كل منهما. ففي التجربة الأوروبية نجد المجتمعات تتخذ من ازماتها رافعة لتقدمها، اما في التجربة العربية فنجد أنها تحاول العودة الى ماضٍ يُخَيّل اليها على انه كان ساميا ومثالياً.